نهار الأحد 16 نيسان 1950 غصَّت قاعة الاجتماعات الكبرى في #الجامعة الأميركية – بيروت بنخبة ثقافية وفكرية وفنية ممن جاؤوا إلى الاحتفال باليوبيل الذهبي لواضع النشيد الوطني اللبناني ومؤسس المعهد الموسيقي الوطني #وديع صبرا (23 شباط 1976- 11 نيسان 1952).
كان في الاحتفال برنامجٌ موسيقي من ألحانه على قصائد من سعيد عقل وشبلي ملاط ورشدي معلوف، ومجموعة من الأغاني الفولكلورية من توزيعه، إلى مقاطع أوبرالية من تأليفه.
بين مجموعات وديع صبرا الذي بات تراثُها اليوم في عهدة الفنان فادي جنبرت، العامل على توثيقه وفهرسته، نصُّ الكلمة الرائعة التي ألقاها سعيد عقل في الاحتفال، تنشرُها “النهار” مع وثيقتَين جديدتين: بطاقة الاحتفال، وصورة وديع صبرا يتقبل تهنئة ابنته بالتبني بديعة، ومعهما المايسترو بارون بيلينغ قائد الأوركسترا التي عزفت مؤلفات وديع صبرا في الاحتفال.
وهنا النص الكامل لكلمة سعيد عقل:
“يا أصدقاء وديع صبرا، أيها المختارون الأغنياء حقًا، يا أصفياء الحياة:
هذا المساء، السادس عشر من نيسان ١٩٥٠، تروح أُمّةٌ تدير أنظارها إلى داخلها، تروز شيئًا جَلَلًا: تروز كرامتها.
هذا المساء يولد فجأة لتراباتنا وصخرنا وشجرنا قلبٌ إذ تشعر بلادنا بأنها مدعوة لأن تنبُض.
هذا المساء تحط أبصارٌ من خارج حدودنا، هنا على هذا الثرى، وملؤُها الشُكر، لتعلن لنا أن خيوطًا مذهَّبة تمتد بيننا وبين العالم، إنما رجعَت من عندنا إلى العالم وقد ازدادت تذَهُّبًا والتماعًا.
إلى نصف قرنٍ خلا، قِطعةٍ من دهر، قرَّ قرار وديع صبرا على أن يَهِبَ الفنَّ قلبَه ونبوغَ أصابعه. على الذين أُعطُوا أن يكونوا خلّانَ وديع صبرا، تلامذتَه، عارفيه، الناعمين أحيانًا بتدفئة يديه بأيديهم، أيُّ مغزى، أيُّ تحوّلٍ في تاريخ شعبٍ أن يُعلِنَ ملهَمٌ أنه سيهجر العيش في سبيل الحياة.
لن يكون لوديع صبرا مال، لا مجال لفخفخة، لا قصر، لا ولد، لا راحة، لا ذوق كرى. كل شيء، كل ذاك الشباب الحُداد المتفجّر سيُصبح الهيكل المحطم الشاحب الذي ترون، لأجل نغمة شاردة توقَّف، لأجل خاطرة عن مجهول يُقبَض عليها. وربما لكي نغدو نحن أكثر أهليةً بالجلوس إلى مائدة الآلهة.
هذا الرجل، إنما هو عندنا البارئُ من عدم: لم يكن لموسيقانا قبْله إرثٌ ولا اتصال بعلْم. قبله لا قبل. أما بعدَه فقد وُجدنا في الفن، بات لنا مطمع بانتظار بعد. فكل ما في بلادنا اليوم، وربما في ما وراء تخومنا (أوتار مزروعة هنا وهناك تزيد غصوننا عندلةً، معهدان يطلِقان كل سنة حناجرَ لا تُنسى، ويفككان عقال أصابعِ لَهْوٍ بالهُنيهات: رافي الصغير هنا، أرليت العذبة الساحرة هناك، بديعة التي أبى إلّا أن يعطيها اسمه فوق ما أعطاها من قلبه وسمو فنّه) إنما هو هو صبرا في قرب أو بعد، هو هو صنْع صبرا، أو صنْع من درسوا عليه، أو صنْع الدُرَب العلمية التي كان هو مدخلها إلى الشرق.
وهو عندنا الموسيقي بما في الكلمة من رفعة تحملك على التهيُّب: إن أول مَغناتَين في الشرق هما من وديع صبرا. الواحدة للبنان أَلهَبت إحساس ملهميه في الشعر والتصوير والعلم والفلسفة يوم ضجّت في القلوب أن قد أصبح لنا في الأنواع الكبرى إصبع وسهم، والأخرى لتركيا راحت نغماتها صباح مساء تدغدغ مصطفى كمال العظيم يوم طفق على يدَين ينقل أمّته من شرق الى غرب. فمن لبنان، كان معلّمون متواضعون على أيديهم درس أباطرة ومشترعون وشعراء، عنهم أخذ مارك أوريل، وروما، وشكسبير، فراح صبرا يكْمل التقليد الجلَل، فكانت النغمات التي عليها ترعرع حُلْم أب الأتراك، لا من وضْع أحد أبنائنا وحسْب بل بروح مَن عندنا كذلك: كان موضوع المغناة “رعاة كنعان”، أي رعاة لبنان.
وهو عندنا العالِم. قد يقول لكم يومًا من هو أَخلَق مني تخصُّصًا ما قيمة النتائج التي حصل عليها هذا المنقِّبُ العجيب يوم راح يعامل الموسيقى كعناصر الكيمياء يُدخلُها مختبره، يستنطقها صميمَ ما هي، فإذا الأرقام التي مضى يتلاعب بها وهو ينقِّب على وحدة القياس بين عالَمَي الموسيقى المتناقضَين أنطق وأنصع بيانًا. ومتى نُشرَت يومًا عشرات الدفاتر والجداول التي دوَّن فيها هذا الشيخ اكتشافاته، كان مجال اعتزاز للبنان وللعلْم.
وهو عندنا المُجَدِد الفاتح. فالمفتتَح الذي استَهل به نشيدنا الوطني، مؤلفًا بين النقيضات: من طراوة وغرابة وعقل (بين شومان وغريغ وباخ) وشيءٌ آخر لا يُحد، إنما هو رمز عن موسيقى صبرا، وعن الحب الذي يُغدقه ناعمًا وَسَخيًا على كل ما تلامسه أصابعه الشهمة الحلوة. إن الذي ينتقي عالم اللحن موضوعَ حياةٍ، إنما يَنذر نفسه لهيكلٍ له إلهان في مستوى المستحيل: الصعوبة والكدح. ومن قول ساذج بأن “الموسيقى تركيب أنغام تستحيله الأذن” إلى تأكيد فيلسوف كردينال بأن “جوهر النفس نغم” إنما يمتد أدب لا ينضب على اكتناه أعجوبة العقل البشري هذه. ربما لا تكون الموسيقى محاكاةً تنقل صوت البلبل إلى الوتر أو تَنقُش عصف الريح أو الرعد في نفخَة ناي، ولا هي إيحاء يشفّ عن الجمال شفًّا، حتى ولا فكَرًا لها كلُّ تسلسلات المنطق على أنها من عالم آخر. لربما تكون الموسيقى كلَّ ذلك ومتخطاه معًا في محاولة إنسانٍ استجاب لتحدي ربّه له أَنْ أَطْلِع مثلي خليقةً سوية تتنفَّس فيها الحياة، وتُعشَق وتوجِع كالحبيبات.
أن يكون وديع صبرا راضَ عالَم اللحن باسمنا، هذا العالَم الذي لا يُنال إلا في المشتهى، لَهْوَ أمر يحفزّني اليوم إلى تَناسي ما بيني وبينه من صداقة وتبادُل إيمان، فأَغدو، وأنا الشاعر، بأني قاطفُ كلِّ زهْر الجبل أرطّب به الهواء أمام جبهة هذا العائد إلينا، بعد خمسين عامًا، من حقول النجوم، متعَبًا مما قطف، لا منها بل من الرنين الخفيت الذي تبُثُّه بعضها بعضًا في الليالي، آونةَ يطيب لها أن تتسامرَ أو تُفرغ قلبها المثقل.
ويا صديقي الكبير: لقد زدت الجداول عندنا لينًا، وقماشةَ الصبح صفاء، وهديلَ الحمام ترصُّنًا في البوح. وإننا بدونك لَيستحيل علينا تَصَوُّر لبنان. فَوَسْوَسَةُ شجرنا بعدكَ أكثرُ نجوى، وغضبُ بحارنا أَشدُّ عزمًا، وتفتيحةُ ورودنا أسطعُ أهليةً بأن تُزيِّن الرُبى وتُشكِّل ثوبَ العروس”.
النهار
بطاقة الاحتفال