حرب ضارية مكتومة حلبتها تقنية وغايتها فرض سطوة وهيمنة
فجأة ومن دون سابق إنذار، أو لعله بإنذار سياسي غارق في النكاية ومشبع بمتلازمة الغرب الديمقراطي الطيب وغير الغرب غير الديمقراطي الشرير، بدا وكأن أميركا وأوروبا في حرب ضروس أمام “تيك توك”.
“ولايات أميركية تفرض حظراً على تيك توك”، “بريطانيا تحظر تيك توك من على الهواتف الحكومية”، “كندا تحظر تيك توك على هواتف موظفي الحكومة”، “نيوزيلندا تحظر تيك توك على الأجهزة المتصلة بالشبكة الخاصة بالبرلمان”، “الاتحاد الأوروبي يحظر تيك توك على هواتف موظفيه”، وقائمة الحظر الغربي للتطبيق العنكبوتي الذي يحظى بأكثر من مليار مستخدم آخذة في التمدد والتوسع، ومعها يتمدد اللغط ويتوسع الغموض.
المنصات ولدت في أميركا
الدول ذاتها، على رأسها الولايات المتحدة الأميركية التي تفاخر بأن الغالبية المطلقة من منصات الـ”سوشيال ميديا” ذائعة الصيت ولدت على أرضها، والدول نفسها التي سوقت وروجت وأكدت أن الإنترنت وفي القلب منه منصات التواصل الاجتماعي هي أداة التمكين الشعبية المناضلة المجاهدة رافعة راية حرية التعبير ومترجمة قيم الديمقراطية، حيث حق البحث والتعبير للجميع من دون ضابط أو رابط أو هاجس أو وسواس، هذه الدول شمرت عن ساعديها ودخلت معترك تطويق إحدى هذه المنصات ذائعة الصيت “تيك توك” وتقييدها ومنعها وحظرها. يبدو أن مخالب الديمقراطية الغربية يجري غرسها في “تيك توك” الصينية.
الأشهر الماضية شهدت تصاعد وتفاقم الاحتقان والمواجهة بين كتلة من الدول الغربية القوية الديمقراطية ومؤسساتها وولاياتها ومدنها وبرلماناتها من جهة، وبين “تيك توك” من جهة أخرى. التطبيق ذائع الصيت بين القواعد الشعبية في أرجاء العالم، بما في ذلك الجزء الغربي الديمقراطي منه، لا يحظى بالشعبية والولع والشغف نفسه من قبل حكومات وأنظمة هذا الجزء.
ما يقال ويروج له في الإعلام أن هذه الدول ترى أخطاراً رهيبة وتهديدات مريعة في التطبيق على معايير الأمان والخصوصية للمستخدمين، وعلى رغم أن معايير الأمان والخصوصية على جميع منصات الـ”سوشيال ميديا” منذ خرجت إلى نور الاستخدام الشعبي مثار مخاوف الحكومات، إلا أن للمخاوف مواسم، ولها كذلك ما يبررها حيناً، وما لا يبررها ولكن يشرحها أحياناً.
حرب مكتومة ضاربة
يمكن القول إن حرباً ضارية مشتعلة، لكن مكتومة، بين الغرب والصين حلبتها تقنية وأدواتها منصة وتطبيق وغايتها فرض سطوة وإعلاء هيمنة على أخرى. ومنذ إطلاق “تيك توك” دولياً عام 2017 والمنصة تنتشر انتشاراً مثيراً بين قطاعات عدة في كل أرجاء الأرض إلا قليل.
تم تنزيل “تيك توك” 3.5 مليار مرة، مما يجعله التطبيق الخامس الأكثر تنزيلاً والأوسع انتشاراً وأول تطبيق غير مملوك لـ”ميتا”. ويدين “تيك توك” لـ”كوفيد-19″ بالكثير، إذ إنه شهد ارتفاعاً غير مسبوق في أعداد المستخدمين أثناء فترة الإغلاق والعزل خلال أشهر عام 2020 الأولى، حيث وجدت الملايين نفسها مضطرة إلى تمضية معظم الوقت في البيت، مما دفعها إلى منصات التواصل الاجتماعي.
وبحسب موقع “ستايستا” (المتخصص في إحصاءات واستطلاعات الإنترنت)، شهد “تيك توك” نمواً بنسبة 180 في المئة أثناء فترة الوباء بين المستخدمين بالفئة العمرية الواقعة بين 15 و25 سنة.
وبعد انتهاء إجراءات الوباء الاحترازية، حافظ التطبيق على صعوده على رغم مكونه الرئيس من الترفيه، عكس بقية المنصات التي لا تقتصر على المكون الترفيهي نفسه، لكن التطبيق ارتبط أيضاً بشبهة الإدمان، إدمان المستخدمين على متابعته والإغراق فيه إنتاجاً ومشاهدة، ويصل متوسط عدد المرات التي يفتح فيها المستخدم “تيك توك” نحو 19 مرة يومياً.
من ألف التأسيس إلى ياء السطوة
يبدو أن التطبيق متفرد من ألف تأسيسه ونموه إلى ياء انطلاقه وسطوته. المدير التنفيذي السابق والمؤسس للشركة الأم المبتكرة لتطبيق “بايت دانس” هو الملياردير الصيني تشانغ يي مين. وظل مديراً للشركة لنحو 10 أعوام قبل أن يعلن في 2021 تخليه عن منصبه “لأنه لا يميل إلى الظهور الاجتماعي ويميل إلى الخصوصية”.
وظل العالم يحتفي بـ”تيك توك” ويتابع أبرز مؤثريه ويرصد أشهر ما يرد فيه من محتوى وأكثر ما يولد مشاهدة ومتابعة ويثير القيل والقال، لكن معظم القيل كان سمة مشتركة مع بقية منصات الـ”سوشيال ميديا” مثل “فيسبوك” و”تويتر” و”مسنجر” وغيرها، وجزء معتبر من القال يعود لكون التطبيق صينياً في عالم سمته الاستقطاب والهوة بين الشرق والصين في القلب منها والغرب آخذة في الاتساع.
سارت الأمور عادية إلى حد كبير باستثناء هوجات التحذير من المحتوى والتلميح إلى قدرة التطبيق وبنائه ومحتواه على التسبب في إدمان المستخدمين، لا سيما من صغار السن، وموجات التلميح إلى أخطار عن الخصوصية والسرية للمستخدمين سمة منصات الـ”سوشيال ميديا”، لكن بإضافة مكون الملكية الصينية، حتى إن كانت بيانات التطبيق تخزن خارج الصين.
خارج الصين، تحديداً في الولايات المتحدة الأميركية العدو اللدود لبكين، أخذ “تيك توك” ينمو ويتوغل ويتمدد حتى نافس “نتفليكس” من حيث الوقت الذي يخصصه الأميركيون لمنصة المشاهدة الشهيرة، وقبلها تغلبت المنصة على كل من “يوتيوب” و”تويتر” و”إنستغرام” و”فيسبوك” من حيث المشاهدة الأميركية.
وبدلاً من التعامل مع “تيك توك” أميركياً باعتباره المنصة الأكثر شعبية وانتشاراً بين المراهقين، والبدء بالتخطيط للتعامل مع آثار “تيك توك” على هذه الفئة العمرية وسبل الترشيد والحماية والوقاية، لحق بهم البالغون الأميركيون الذين حققوا نسب مشاهدة وتحميل غير مسبوقة.
شعبية “تيك توك” في الغرب
شعبية “تيك توك” سارت على النهج ذاته في عدد من الدول الغربية التي تتجه إلى حظره جزئياً هذه الأيام، لكن ظل الاحتقان بين التطبيق والشركة الصينية المالكة له من جهة وبين هذه الدول من جهة أخرى مكتوماً لا يخرج إلى العلن إلا وقت الحاجة، أزمة دبلوماسية مع الصين، موقف تضامني تتخذه الصين مع روسيا أو سوريا، تأكيد من كوريا الشمالية على دعم الصين، تصريح من الصين حول دعم علاقاتها مع كوريا الشمالية، زيارة إيرانية للصين لتعزيز العلاقات مع إيران، اتفاق بين السعودية وإيران على استئناف العلاقات برعاية الصين، تأكيد روسي على النظر لخطة الصين للسلام بعين الاعتبار، تعزيز العلاقات بين روسيا والصين في زمن الحرب في أوكرانيا وقائمة “الحاجة” طويلة في الآونة الأخيرة.
واقع الحال في الحرب الضارية الدائرة بين “تيك توك” والغرب تتمثل في ثلاث نقاط، الأولى هي أن أنظمة الدول الغربية بقيادة أميركا تكيد للصين بسبب عداوة مكتومة كلاسيكية ومنافسة محتدمة اقتصادية وتقنية متخذة من الخوف على الخصوصية والخشية من ضياع السرية أدوات في حربها.
والنقطة الثانية هي أن الصين اعتبرت خطوات الحظر وأدوات الحرب فرصة ذهبية لها لتتهم الديمقراطية بالشيزوفرانيا والدول الغربية بالازدواجية في ما يتعلق بشعارات الحرية التي تتحول حظراً وقت الحاجة.
والنقطة الثالثة هي المستخدمون الذي يجدون أنفسهم في حيرة من أمرهم، فهم يستخدمون “تيك توك” بعلم حكوماتهم منذ عام 2017، ويعرفون أن الخلافات السياسية والمنافسات الاقتصادية والاحتقانات الدبلوماسية بين بلادهم من جهة والصين من جهة ثانية أمر معتاد، ولم يلق بظلاله بشكل واضح ومباشر على “تيك توك” فعلياً من قبل. لذلك يأتي تواتر قرارات حظر التطبيق الصيني على هواتف موظفين حكوميين هنا وهناك “خوفاً على الخصوصية وحفاظاً على سرية المعلومات” أمراً محيراً، فكيف يكون التطبيق خطراً على موظفي الحكومة، فهل يكون آمناً لغيرهم؟ وهل الحظر هو الحل في الديمقراطية أم أن هناك خللاً ما؟
ملامح الخلل
ملامح الخلل بدأت ولم تقتصر على إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في أغسطس (آب) عام 2020 عزمه إصدار أمر بحظر “تيك توك” في بلاده، حيث تشتبه السلطات الأميركية في ضلوع التطبيق بعمليات تجسس لمصلحة الاستخبارات الصينية، وقتها نفت الشركة الصينية المالكة “الاتهام” وأكدت عدم وجود صلة تربطها ببكين.
وعلى رغم أن تهديد ترامب بحظر التطبيق لم تصحبه أية تلميحات أو توضيحات عن كيفية تنفيذ الحجب أو الحظر فعلياً، إلا أن الشركة المالكة دافعت عن نفسها وماهية عملها وطبيعة المحتوى، مشيرة إلى أن مئات ملايين المستخدمين لجأوا إلى المنصة للترفيه والاتصال بالآخرين، ومنهم فنانون ومبدعون وأشخاص يطمحون إلى تحقيق مصدر رزق عبر المنصة.
بدت المواجهة في حينها أقرب ما تكون إلى الهزل، أقوى دولة في العالم تتهم شركة صينية تستحوذ على ما يزيد على مليار مستخدم بينهم نحو 150 مليون أميركي بالتجسس، والشركة ترد بأنها منصة ترفيه ومجال لأكل العيش!
لكن أكل العيش درجات ومستويات، ترمب وهو رجل أعمال في الأصل خير الشركة الصينية المالكة لـ”تيك توك” بين الاستحواذ أو الحظر. معارضون لترمب ولفكرة الحظر التي اعتبروها خرقاً للديمقراطية وحرية التعبير وصفوا خطوات الرئيس السابق بـ”البيع القسري”، إذ فاجأ ترمب الجميع بشرط ينص على أنه لو أرادت الشركة استكمال نشاطها في أميركا عليها أن تبيع حصة التطبيق في أميركا، كما أبدى مباركته للمفاوضات التي كانت جارية بين “مايكروسوفت” و”بايت دانس” بغرض إتمام صفقة الاستحواذ، والمثير أن الرئيس التنفيذي لـ”مايكروسوفت” ساتيا ناديلا وصف المفاوضات والصفقة التي لم تتم بأنها “أغرب شيء”.
حلقات الغرابة
استمرت حلقات الغرابة، فحدد ترمب 15 سبتمبر (أيلول) عام 2020 موعداً لإتمام استحواذ أي شركة أميركية على التطبيق في أميركا أو الحظر، ووضع شرطاً إضافياً، ألا وهو سداد تعويضات مالية كبيرة لوزارة الخزانة الأميركية تزامناً وإتمام الصفقة “لأننا نجعل تحقيق الصفقة ممكناً، وهم لن يملكوا أية حقوق في حال لم نعطها لهم”!
لكن لا الصفقة تحققت ولا “تيك توك” في أميركا تم بيعه ولا وزارة الخزانة تلقت تعويضات ولا التطبيق تم حظره، لكن غادر ترمب منصبه وخلفه الرئيس الحالي جو بادين الذي ألغى قرار سلفه بحظر التطبيقين الصينيين “تيك توك” و”وي تشات”، مما أغلق باب المفاوضات لاستحواذ شركة أميركية على التطبيق، لكن الأيام أثبتت أنه لم يكن إغلاقاً بائناً بل موقتاً.
“البيع القسري”
في الصيف الماضي أعلنت حكومة الولايات المتحدة أنه سيكون على الشركة الصينية المالكة لـ”تيك توك” أن تبيع التطبيق “الذي يشكل خطراً على الأمن القومي الأميركي عبر البيانات التي يجمعها عن مستخدميه”، وفي المقابل عاودت الشركة المالكة تأكيدها على الشفافية والمصداقية، لكنها أضافت هذه المرة أن “البيع القسري” لا يحل أي مشكلة.
وقال متحدث باسم “تيك توك” في تصريحات صحافية وقتها إنه تلقى بالفعل اتصالاً من لجنة الاستثمارات الأجنبية في أميركا، وهي اللجنة التي قالت صحيفة “وول ستريت جورنال” إنها تشرف على الأخطار التي تهدد الأمن القومي وأوصت اللجنة في اجتماعها حينئذ بفصل الشركة الصينية عن التطبيق.
مواجهة معقدة
المواجهة بين “تيك توك” والإدارة الأميركية محتدمة وتمثل البؤرة الأكبر للصراع مع الصين، لكنها أكبر من ذلك وفي الوقت نفسه أكثر تعقيداً، لا سيما في إطار تفسيرها للمستخدمين العاديين بمشارق الأرض ومغاربها.
الأمر بسيط، “تيك توك” يجني المال عبر مستخدميه ويجمع معلوماتهم ويحللها، وربما يحتفظ بها لاستخدامات مستقبلية، ثم يقوم بتغذيتهم بالمحتوى المناسب لهم بناء على سماتهم المستقاة من البروفايل الخاص بهم. وهذا هو مكمن الخطورة حسبما تؤكد الدول الغربية الآخذة في حظر التطبيق ولو جزئياً.
لكن السؤال الذي تطرحه خبيرة السياسات السيبرانية وزميلة برنامج الأمن الدولي إميلي تايلور في مقالة عنوانها “إنه هلع تيك توك الكبير” المنشور في صحيفة “ذا غارديان” (مارس 2023) هو “أليس هذا ما تفعله كل منصات التواصل الاجتماعي المجانية؟”.
تتعجب تايلور من أمر هذا “الهلع” الغربي الذي يجتاح الدول العاتية في الديمقراطية وتقول إنه يجب على الديمقراطيات أن تناقش بشكل ناضج السلامة على الإنترنت وسرية البيانات، بدلاً من الدخول في ردود أفعال متسرعة تعكس ارتعاش الركب، وهو ما من شأنه المخاطرة بفكرة يعتز بها الجميع.
الفرق في هوية المالك
سياسات الخصوصية الخاصة بـ”تيك توك” لا تختلف كثيراً، بل لا تختلف أبداً عن مثيلاتها في المنصات العنكبوتية الأخرى، الفرق الوحيد يكمن في هوية مالك هذه المنصة تحديداً، ملكية المنصة من قبل الصين محور المأزق، وهو مأزق له مبرراته في كتب العلوم السياسية ومراجع الأمن القومي ومرجعيات الصراعات الجيوسياسية.
الرئيس التنفيذي لشركة “تيك توك” تشو تشيو وجد نفسه عالقاً في صراع جيوسياسي كوني عات قبل أيام. جلس تشيو أمام الكونغرس الأميركي في جلسة عاصفة قاسية وجهت إليه كل أنواع أسئلة التجسس واختراق الخصوصية واستخدام البيانات الشخصية واختراق هواتف الأميركيين، وتزويد الحكومة الصينية ببيانات المستخدمين الأميركيين وقائمة طويلة من الاتهامات، إضافة إلى بعض المطالبات بينها ضبط المحتوى بشكل لا يجعله أداة تجسس لمصلحة الصين.
تشيو من جهته تحدث عن إجراءات حماية يتبعها “تيك توك” لحماية المستخدمين دون عمر الـ16 سنة، وإزالة المحتوى الذي يحمل شبهة العنف أو الحث عليه وحظره، لكن هذا لم يكن ما يريد أعضاء الكونغرس سماعه، وكان بعض مما أرادوا سماعه تمثل في إشارة تشيو إلى ما يسمى “مشروع تكساس” الذي يقوم على التخطيط لحفظ بيانات المستخدمين الأميركيين في شركات محلية.
لكن لم يكن هذا ما تسعى إليه أميركا، بالتالي بقية الدول الغربية التي تحذو حذوها، فجلسة الاستماع العاتية كانت منصة زاعقة للتعبير عما يجول في خاطر الجزء الغربي من العالم، وأميركا في القلب منه، تجاه الصين في هذا الوقت شديد الحساسية الغارق في التوترات الجيوسياسية والمصاعب الاقتصادية.
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن عائدات “تيك توك” من الإعلانات في أميركا وحدها مقدر لها أن تصل إلى نحو 6.83 مليار دولار.
نتائج عكسية
بعيداً من الصراع الجيوسياسي والأمن السيبراني والمنافسة الشرسة بين الصين وأميركا، يرى بعضهم أن جلسة الاستماع لمسؤول “تيك توك” أسفرت عن نتائج عكسية بالنسبة إلى أميركا الغاضبة المنتفضة على “تيك توك”.
سلسلة الأسئلة التي وجهها أعضاء في الكونغرس واعتبرها كثيرون بمن في ذلك الأميركيون أنفسهم غريبة، إضافة إلى مقاطعة تشيو المستمرة وعدم تمكينه من الإجابة مع توجيه أسئلة له من نوعية “نعم” أو “لا” لكنها تتسم بقدر هائل من السذاجة وتؤكد عدم معرفة السائلين بـ”تيك توك” من الأصل، أدت إلى موجة من السخرية اللاذعة ومزيد من شعبية “تيك توك” والتعلق به.
فمثلاً سأل أحد أعضاء الكونغرس إن كان في الإمكان الدخول على التطبيق من الـ”واي فاي” المنزلي، وآخر عن سبب تركيز التطبيق على عيون المستخدمين لدى استخدام الفلتر وغيره، وهو ما فجر أبواب سخرية الأميركيين. وخرج الآلاف منهم بتوليفة من الأسئلة التي قدموها باعتبارها تليق بـ”مستوى أسئلة الكونغرس عن الأمن القومي” مثل “هل تستطيع زوجتي معرفة نشاطي على ’تيك توك‘ حتى لو استخدمت اسماً مستعاراً؟” و”هل يمكن لتيك توك أن يراني لو اختبأت في خزانة ملابسي؟” و”هل لو شغلت البلوتوث ستتحول أسناني إلى اللون الأزرق؟” وغيرها كثير وهو ما تسبب في إحراج أعضاء الكونغرس.
“تيك توك” في قلب الصراع
بعيداً من الطرافة المعبرة كثيراً عن الواقع، يبقى تطبيق “تيك توك” في القلب من صراع جيوسياسي قديم ومنافسة اقتصادية عاتية احتدما هذه الآونة. ويبقى سواء تم حظره أو تقييده أو بيعه “قسراً”، وسواء كان منصة تواصل اجتماعي ترفيهية ربحية، أو هادفة إلى التجسس والحصول على بيانات مستخدميها وربما تتشابه أو تختلف في هذا الصدد مع غيرها من المنصات، هو أول منصة تواصل اجتماعي تعتمد على الفيديوهات القصيرة تولد وتزدهر وتحقق نجاحاً أيقونياً خارج الولايات المتحدة الأميركية، تحديداً خارج “وادي السيليكون”.
كما يبقى “تيك توك” المنصة التي سلطت الضوء بشكل واضح وصريح ومباشر على حدة الصراع بين الصين وأميركا، سواء سياسياً أو اقتصادياً أو في مجال الهيمنة على المنصات الرقمية.
جيوسياسية المنصات
تشير الباحثة في مجال الإعلام الرقمي في جامعة كوينزلاند للتكنولوجيا في أستراليا جوان غراي عبر ورقة عنوانها “جيوسياسة المنصات: تحدي تيك توك” (2021) إلى أن الهيمنة الأميركية على المنصات الرقمية استمرت عقدين كاملين، وهذه الهيمنة الرمزية تقع ضمن نظام جيوسياسي أوسع للهيمنة الأميركية التي حددت النظام العالمي الليبرالي منذ نهاية الحرب الباردة، وذلك عبر الشراكات والتحالفات الإستراتيجية حول العالم. وتضيف أن النمو الاقتصادي والسياسي للصين يؤدي إلى “زعزعة استقرار النظام العالمي الذي يضع الولايات المتحدة الأميركية في مكانة الصدارة فيه”.
وتخشى غراي أن يؤدي الخلط بين الجدل الجيوسياسي الذي يتم إقحامه في المنصات الرقمية اليوم إلى إخفاء أو تمويه العوامل الأخرى التي تتصل بسياسات المنصات الرقمية بشكل عام والتي تدور حول قيمة المنافسة وأهميتها في سوق دولية تتسم بالتركيز الشديد وشبه انعدام للتنوع. وترى غراي خطورة كبيرة لهذا التركيز وانعدام التنوع في القطاعات المختلفة للسوق ولكن تتعاظم الخطورة في قطاع اقتصاد المعلومات.
مصدر خطر آخر في الحرب التي يشنها الغرب على “تيك توك” هو تأكد انقشاع حلم أن تكون شبكة الإنترنت ومنصاتها بنية رقمية تتسع ومنفعة عامة تتسع للجميع بغض النظر عن خلافاتهم السياسية والجيوسياسية ومنافساتهم الاقتصادية.
أما في ما يختص بالديمقراطية وقواعدها التي تجد نفسها في مهب رياح الحجب والحظر والبيع القسري في عقر دارها، فيشار إلى تصاعد أصوات عدة في دول الغرب الملوحة بسلاح الحظر تندد بالحظر وتحذر من توسيع دائرته حتى لو كان ذلك بحسن نية بغرض الحفاظ على الأمن القومي.
خرق لـ”التعديل الأول”
“مركز الديمقراطية والتكنولوجيا” (مقره واشنطن) يحذر من أنه على رغم مخاوف عدة تتعلق بمنصات التواصل الاجتماعي وتقنياتها المتعلقة بالخصوصية وسرية المعلومات، وعلى رغم لجوء بعض هذه المنصات إلى حملات التضليل والتأثير في الرأي العام، إلا أن فرض الحظر على بعض هذه المنصات مثل “تيك توك” ليس الحل.
وأشار إلى أن مثل هذه الإجراءات تقوض حرية التعبير في أميركا وخارجها، ناهيك عن خرقها للتعديل الأول المنصوص عليه في وثيقة الحقوق الأميركية. وينص على حظر قيام الكونغرس بتشريع أي قانون من شأنه أن يدعم ممارسة أي دين أو يؤدي إلى منع ممارسة أي دين. ويحمي حرية الكلام والصحافة وحق الناس في إقامة تجمعات سلمية وحق إرسالهم عرائض إلى الحكومة تطالب برفع الظلم.
في الوقت نفسه، تعلو أصوات بمعاقل الديمقراطية الغربية محذرة من أن السماح باستمرار “تيك توك” هو تهديد صريح للديمقراطية وقيمها. بعضهم يتحدث عن خطر مشترك يجمع كل منصات الـ”سوشيال ميديا” حيث تشويه الفضاء العام، أو جذب المستخدمين وإغراقهم في محتوى تافه ومعلومات ضبابية سائلة لا عمق أو فائدة فيها، والوقوع في براثن ثقافة “الإنفلونسرز” إلى آخر قائمة الأضرار التي تشترك فيها منصات التواصل الاجتماعي كلها، لكن “تيك توك” صينية.
أمينة خيري – اندبندنت
Follow Us: