خضر حسان – المدن
أُرهِقَ اللبنانيون كثيراً خلال رحلة الانهيار المستمرة. أمّا جرعات المساعدات الاجتماعية والزيادات التي طرأت على الرواتب والأجور، فعجزت عن تصحيح الخلل، وباتت الهجرة السبيل الأسهل والأسرع لتعديل كفّة الميزان وإعالة النفس والأهل. غير أن الاستغلال الذي امتهنه الكثير من أصحاب المصالح في لبنان، لاحَقَ الشبّان في هجرتهم، وخصوصاً في الدول الإفريقية. فالرواتب المجحفة التي تُدفَع هنا، رغم تسعير البضائع والخدمات بالدولار، يُقابلها تخفيضٌ للرواتب هناك، بحجّة ارتفاع سعر صرف الدولار في لبنان.
تحويلات لا غنى عنها
بانهيار سعر صرف الليرة وتقويض حركة الاقتصاد، أصبحت التحويلات الوافدة إلى لبنان المتنفَّس الأبرز للعائلات والرافد الأساس للاقتصاد. وفي نهاية العام 2022 قدَّرَ البنك الدولي حجم التحويلات الوافدة إلى لبنان بنحو 6.8 مليار دولار، أي ما يمثّل 37.8 بالمئة من الناتج المحلّي، ليحتلّ لبنان بذلك المرتبة الأولى في المنطقة لجهة حجم التحويلات المالية، والثانية عالمياً.
وتعكس التحويلات المرتفعة مدى اعتماد العائلات اللبنانية على أموال المغتربين الذين تزايدت أعدادهم بشكل غير مسبوق منذ بدء الانهيار في العام 2019 وبروز انسداد أفق الحلّ بعد نحو عام. حتّى أن الأمم المتّحدة رأت في تقرير لها في أيار من العام الماضي، أن “اختصاصيين وشباباً كثراً اختاروا طريق الهجرة خلال العامين الماضيين”، مدفوعين بارتفاع معدّلات البطالة محلياً، إذ أن “ما يقارب ثلث القوى العاملة الناشطة كانت عاطلة عن العمل مطلع العام”.
وباختصار، لم يعد هناك غنىً عن التحويلات لمساعدة العائلات التي تزداد فقراً. ومن زاوية إيجابية، لعب انهيار سعر العملة دوراً في زيادة القدرة الشرائية للتحويلات الدولارية. فمن كان يُرسِل نحو 500 دولار شهرياً لعائلته قبل الأزمة، بات بإمكانه إرسال نحو 200 دولار، ومَن تمكَّن من الحفاظ على معدّل تحويلاته، زادَ بذلك من معدّل استهلاك أسرته وبالتالي عزَّزَ مكانتها الاقتصادية والاجتماعية.
جشعٌ عابر للقارّات
تعزيز القدرة الشرائية لرواتب الشبّان المغتربين، أثار حفيظة بعض رجال الأعمال في القارة الإفريقية، وتحديداً في ساحل العاج والكاميرون. إذ لجأ أصحاب العمل إلى تخفيض رواتب موظّفيهم متذرّعين بأن “الألف دولار زادت قيمتها في ظل الأزمة مقارنة بما كانت عليه قبلها”.
قبل الأزمة كان متوسّط الرواتب التي يحصل عليها الشبّان، يتراوح بين 1000 و1500 دولار شهرياً. مع أن بعض الرواتب كان ينخفض إلى نحو 600 دولار ويرتفع بالنسبة للبعض إلى نحو 3000 دولار. أما مَن يزيد راتبه عن هذا الحد، فيُعتَبَر محظوظاً.
من المتعارف عليه، أن الرواتب في معظم دول القارة الإفريقية، تبدأ من 1000 دولار بالنسبة لشاب لا يتقن العمل الجديد ولا لغة البلد. ويشترط أصحاب العمل على موظّفيهم عدم السفر إلى لبنان في المرة الأولى، قبل انقضاء عامين، وبعضهم يحسم كلفة إجراء الأوراق الرسمية المطلوبة في كل دولة، من رواتب الموظّفين الذين يقبلون بذلك آملين بدء حياة جديدة مختلفة عمّا يقاسونه في لبنان.
زادت محنة هؤلاء مع لجوء أرباب العمل إلى تخفيض الرواتب. فيُجمِعُ الشبّان في ساحل العاج والكاميرون على أن أغلب أصحاب العمل اللبنانيين “خفّضوا الرواتب. ومَن كان يقبض 1500 دولار بات يقبض نحو 1000 دولار. ومَن كان راتبه 1000 دولار بات بنحو 700 دولار. أما مَن ينتقل حديثاً إلى تلك الدول، فيبدأ بنحو 500 دولار، بعد أن كان الراتب مضاعفاً”!.
اعترض كثيرون على هذا الإجراء، لكن الجواب النهائي كان واضحاً “مَن لا يعجبه، فليجد عملاً آخر”. ولا مجال للنقاش هناك “فالكثير من الشبّان ينتظرون فرصاً لتعزيز أوضاعهم. وكما في لبنان، هناك بطالة مقنَّعة في افريقيا، فمن يعمل بـ800 دولار، إنما يسدّد كلفة حاجاته الأساسية، ولا مجال للادخار بصورة مناسبة”.
يلفت الشبّان النظر إلى أن “ما يُصوَّر على أنّه 1000 دولار بقيمة شرائية كبيرة، هو في الحقيقة أقلّ من ذلك. فالـ1000 دولار تُقبَض بما يوازيها بعملة البلد، وهي في الكاميرون وساحل العاج تساوي نحو 500 ألف فرنك أو ما يُعرَف بـCFA وهي عملة موحّدة تشمل 5 دول في المنطقة. والـ500 ألف فرنك يُدفَع منها أجرة منزل ونقل وطعام وشراب وثياب وكافة المتطلّبات اليومية. ويكفي المبلغ متطلّبات شابٍ أعزب، مع ادّخار بين 150 و200 ألف فرنك، لم تكن كافية قبل الأزمة في لبنان. ومع اعتبار أصحاب العمل أن الـ200 ألف فرنك، أي الـ400 دولار باتت ذات قيمة في لبنان، صَوَّروا موظفيهم وكأنّهم أصبحوا أغنياء، ما يحتِّم خفض رواتبهم”. وخفض الرواتب بالدولار، عنى حكماً خفضها بالعملة المحلية، أي أصبح الشبّان أمام ضغط كلفة المعيشة هناك.
لا مجال للرجوع
يعرف الشبّان أن ما يعيشونه ليس وضعاً مثالياً، لكنّه “أفضل من البقاء في لبنان والعمل بـ100 أو 200 دولار في أحسن الأحوال”. وعن الرجوع إلى لبنان، يُجمِع هؤلاء على أن “لا مجال للرجوع، لأن الأمور تتّجه نحو الأسوأ. أما في إفريقيا، فاحتمالات تحسُّن الأوضاع أعلى، فإذا لم تتحسَّن الرواتب، يمكن البحث عن عمل أسهل وبدوام أقل، أو ربّما البحث عن امكانية اللجوء نحو أوروبا، فأي مكان في العالم أفضل من لبنان”.
ولدعم وجهة نظر الشبّان، تقول الأمم المتحدة في تقرير لها أن “تسعة من كل عشرة أشخاص يجدون صعوبة في الحصول على دخل في لبنان، وما يزيد على ستة أشخاص من كل عشرة سيغادرون البلد لو استطاعوا إلى ذلك سبيلاً”. والمغادرون ما عادوا ينظرون إلى حجم الرواتب التي سيحصلون عليها في الخارج، بل إلى الأمان الوظيفي وامكانية رفد ذويهم بما يلزم لمواجهة الأزمة، وعلى نحو خاص مخاطرها الصحية. لكن، وبكل أسف، كما أن “الدولة اللبنانية، بما في ذلك مصرفها المركزي، مسؤولة عن انتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك الإفقار غير الضروري للسكان”، على حد تعبير الأمم المتحدة، يساهم بعض رجال الأعمال اللبنانيين في التضييق على الشبّان المغتربين، وحرمانهم من حقّهم في تعزيز قدراتهم المادية وتحسين ظروف حياتهم وحياة مَن يعيلونهم في لبنان.