نبيل مملوك ـ
يُقدم المترجمان رشيد وحتي ومحمد الأمين الكَرخي الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر والمخرج الإيراني الراحل عباس كيارستمي (1940-2016) تحت عنوان «ليلٌ مرصعٌ بروقًا (منشورات كريسطال ـ2021) ليعرّفا المتلقي العربي على شاعر خرج من عالم السينما والصورة والمشهد نحو الشعر باحثًا في أحشاء الحياة عن لقطات لمْ تقبض عليها عدسات الشعراء المعاصرين، وتساؤلات لم تتحول إلى مشاهد مُعتمدا على التقليل من دور البلاغة في صناعة القصيدة، مبتعدا عن الخطاب المُباشر قاصدا المعنى بدلاً من اللفظة وعن الاِنزياحات والزخرفة التي تجعل الشاعر يتمسكَ بأصل الشعر، دون التفكير في أي تجديد، فكيف عبر كيارستمي عن هواجسه وقضاياه ؟ هل تحرر من الالتزام الأدبي؟ أم عالج الحياة بأشكال مختلفة؟
الحياة في مشاهدها المألوفة
من مجموعته الشعرية الأولى «بصحبة الريح» 1999 التي ترجمها إلى العربية حصرا رشيد وحتي، حتى مجموعته الأخيرة «ريح وأوراق» 2011- ترجمة محمد الأمين الكرخي، لمْ ينحصر كيارستمي في قضية واحدة أو قضايا متشابكة، بل كان الهاجس الأكبر لدى الشاعر التقاط الحياة في زواياها المتعددة، كأنه يريد صناعة فيلم عبثي طويل بمشاهد مكثفة «بياض الحمامة يضيعُ بين الغيمات البيضاء ذات يوم مثلج» «تحتَ كُم قميصي، على حبل الغسيل، اختبأت وريقتان من نسل الخريف» «في نهاية رمضان نحن؛ مائدة مقبلة، مائدة فارغة». هذه المشاهد الشعرية من المجموعات الشعرية الثلاث، بينت أن الشاعر متمسك بالأقانيم الثلاثة التي تميز الحياة وتعطيها هويتها المعتادة «الزمان، المحسوسات، الأنا» فدونها لا يستطيع المرء تكوين صورة عن الحياة، وقد كانت الأنا لدى كيارستمي متنقلة بين المجاز من جهة، «انشقتْ جرة النبيذ، فانهرق دم النبيذ» ومحاولة الكشف والتفكير من جهة ثانية «أين السحابة التي تحجب جبروت الشمس؟» فالشاعر من حيث المعنى والمضمون يرحل من مشهد إلى آخر يريد أن يخرج اليقين لكنه يعود ويغرق في محيط العبث «مئة ينبوع جاف، مئة خروف ظمآن، راعٍ هرم» كل هذه المشاهد المتكونة جعلت المتلقي للوهلة الأولى يبحث عن المجاز والاِستعارات والكنايات بصورها التقليدية المتخمة بالدهشة، إلا أن قارئ عباس كيارستمي سيكتشف عاجلاً أم آجلاً، أن تشكل الصورة بعناصرها الطبيعية هي ما يتوسله الشاعر دون سواه «أنا أقبض على صورة مميزة فحسب؛ كذا الأمر في قصائدي» (حوار مع الشاعر في موقع سينه آي).
الشعرية والتدوين
في قراءة عادية أو بانورامية لأعمال صاحب «ذئبٌ يكمن» سيخلص المتلقي إلى أن عباس كيارستمي يكتب دون جدوى وقد يرى مجمل ما يكتبه هو كناية عن استدراج اللاوعي لتقديم ما يختزنه من مشهديات، أما إذا وضعنا قصائد الشاعر تحت مجهر القراءة المركزة فسنكتشف أنها قصائد سريعة يخطفها الحاضر معه مجردا إياها من أي زمن «أحاور في غيبتكِ، ذاتي؛ بسلاسة نتفق على كل شيء» وهذا ما يحيلنا إلى منطق التدوين الشعري، أو التوثيق المشهدي، الذي انتهج في معظم القصائد، فالعلاقة مع الذات والآخر دائما كانت محط هاجس ودراسة ورغبة في إيصالها كاملة وواضحة لكنها سرعان ما كانت تتجلى بشكلها المعقد والضبابي في قصائد أخرى، «في هذه الحياة، حياتي، التي ليست قصيرة، ولا مديدةً ، تساقطَ الثلجُ سنواتٍ عشرا» وهذا التدوين حافظ على صورته المكثفة وشكله السريع دون أن يفقد الإيقاع الداخلي الذي ظهر عبر أشكال مختلفة منها المقابلة والثنائية الضدية «أفشيتُ سري للقمر؛ حين أشرقت الشمس انفضح».
ليتخذ السياق الشعري بذلك فئة محاكاة الزمن في سبيل القبض على الصورة.
وقد سعى المترجمان محمد الأمين الكرخي ورشيد وحتي إلى بناء جسر ترجمتهما في الأسلوب اللغوي الهندسي نفسه فنقلوا البساطة ونقلوا الشعرية وكأن النص أصله عربي وهذا ما يحيلنا إلى ما يقوله المترجم تحسين الخطيب في افتتاحيته لمجلة «دفاتر الشعر» في عددها الأول حول دور المترجم الشاعر في نقل النص بروحه الشعرية الفنية من لغة إلى أخرى.
عالج كيارستمي الحياة بعين سينمائية دلالية قريبة من لغة المتلقي، رافضا أن يخرج من معجم الحياة البسيطة، متجنبا التنظير الفلسفي معتنقا الفلسفة الذاتية التي تخرج من منطلق التعرف على الصورة والبناء الذهني لمعناها، ما يحيلنا إلى فتح المجال أمام دراسة أسلوبية لاحقة لشاعر قضى معظم حياته كالغروب يتأمل المعنى وهو يتخذ عتمته الكاملة.