يعيش لبنان شللاً جزئياً في مرافق الدولة وإداراتها الرسمية بفعل إضراب مفتوح ينفذه موظفو القطاع العام منذ ما يقرب من عام، إذ يقتصر حضور الموظفين في الإدارة على نسبة تتراوح بين ثلاثة إلى خمسة في المئة لتسيير بعض الأعمال، وذلك بمعدل يومين خلال الأسبوع، على قاعدة “لم يعد لدينا ما نخسره إذا لم تتحقق مطالبنا”، الأمر الذي أدى إلى تكدس معاملات المواطنين، وحرمان خزينة الدولة من قيمة هذه الرسوم.
وعلى رغم الزيادات التي أقرها مجلس الوزراء أخيراً لموظفي القطاع العام وجاءت دون التوقعات بالنسبة إليهم، أعلنت “رابطة موظفي الإدارة العامة” الاستمرار في الإضراب، إذ لا تبدو مؤشرات في الأفق نحو الحل الجذري للأزمة القائمة، فالموظفون يصرون على تحقيق مجموعة مطالب على رأسها تصحيح الأجور وبدل النقل والتقديمات الصحية والتعليمية، إذ شدد نائب رئيس رابطة “موظفي الإدارة العامة” وليد جعجع، على “مطالبهم بتعديل الرواتب بما يؤمن الحد الأدنى من العيش، كالطعام والطبابة”.
وكشف أن الحكومة قدمت طرحاً بمضاعفة الرواتب، إلا أن رابطة الموظفين رفضته على اعتبار أنه لا يكفي ثمن كلفة النقل اليومي، حيث يرى أن تحسين الرواتب يجب أن يكون متماشياً مع حجم تراجع قيمة العملة المحلية مقابل الدولار، مشيراً إلى أن كلفة النقل في البلاد ارتفعت بنحو 14 ضعفاً خلال عام واحد، بالتالي بات الراتب أقل من كلفة النقل.
وأشار إلى أنه في الأساس كان هناك خلل في سلم الأجور في الإدارات العامة، حيث يستحوذ سبعة في المئة من الموظفين على نحو 60 في المئة من كتلة الأجور، إضافة الى توظيفات عشوائية حصلت دون المعايير الوظيفية، الأمر الذي فاقم موازنة القطاع العام، بالتالي لا يجب تحميل الموظفين مسؤولية كلفة أخطاء الحكومات والسياسيين.
ثلث الموازنة
وحسب التفتيش المركزي اللبناني، “يوجد في لبنان 93 مؤسسة عامة تتبع 22 وزارة، إضافة إلى المستشفيات الحكومية والجامعة اللبنانية، ويعمل في القطاع العام ما يقارب 332 ألف موظف، 92 ألفاً في الوظائف المدنية والهيكل التعليمي والقضائي والوزارات والمؤسسات، و120 ألفاً في نظيرتها العسكرية والأمنية و120 ألف متقاعد”. وأشار إلى أن “تكلفة رواتب موظفي القطاع العام كانت تبلغ سنوياً ثمانية آلاف مليار ليرة (5.33 مليارات دولار حسب سعر الصرف الرسمي السابق) وفق موازنة عام 2019”.
وتشكل رواتب الموظفين نحو ثلث موازنة الدولة، علماً بأن صندوق النقد الدولي يشترط خفضها إلى دون 15 في المئة بعد إعادة هيكلة القطاع العام، ووفق مصدر مسؤول في التفتيش المركزي، فإن معدل الرواتب كان حتى عام 2019، للفئات الثالثة والثانية يتراوح بين 2000 إلى خمسة آلاف دولار، في حين كانت تقارب رواتب الموظفين من الفئة الأولى تسعة آلاف دولار، في حين باتت اليوم نتيجة التضخم وبعد زيادة ثلاثة رواتب للموظفين واعتماد سعر صيرفة استثنائي 60 ألف ليرة مقابل الدولار، باتت بمعدل 200 دولار للفئة الثالثة ولا تتعدى 800 دولار لموظفي الفئة الأولى الذين يشكلون المديرين العموم للوزارات.
سيولة وتضخم
ولم تقتصر أضرار الإضراب على شلل في معاملات المواطنين وتجميدها إلى أجل غير مسمى، بل شلت مداخيل الدولة المالية وأدت الى خسائر فادحة، إذ تشير تقديرات التفتيش المركزي إلى خسائر تقدر بنحو 16 مليار ليرة (160 مليون دولار) يومياً، سيما نتيجة إغلاق دوائر وزارة المالية ومصلحة تسجيل ومعاينة السيارات والدوائر العقارية وغيرها من الإدارات التي تشكل مداخيل مالية أساسية للخزينة اللبنانية.
وتشير التقديرات إلى أنه منذ بداية الإضراب تكبدت الدولة ما قيمته ستة آلاف مليار ليرة لبنانية، أي ما كانت قيمته منذ عام 800 مليون دولار في حين بات بعد التضخم الكبير خلال 2022 يساوي حوالى 160 مليون دولار، أي إن الخزينة تخسر السيولة وقيمة تلك الأموال التي تتآكل بسبب استمرار الإضراب.
وتتخوف أوساط اقتصادية ان يؤدي تراجع حركة الأسواق وتراجع الإيرادات التي لم تتمكن الدولة من تحصيلها إلى عدم قدرتها على دفع رواتب الموظفين، حيث باتت السيولة مفقودة في حين أن اللجوء إلى مصرف لبنان يعني طباعة مزيد من الأوراق النقدية، بالتالي زيادة كبيرة على الكتلة النقدية المتداولة، الأمر الذي يؤدي تضخماً إضافياً.
المواد الغذائية
وتشير إحصاءات صادرة عن عدد من النقابات المرتبطة بالاستيراد والتصدير إلى أن الخسائر غير المباشرة تصل إلى حدود 150 ألف دولار يومياً، بسبب التأخير في تخليص معاملات البضائع على المنافذ الحدودية للبلاد.
وبحسب نقيب مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي، فإن الخسائر بسبب الإضراب لا تقتصر على مداخيل الخزينة العامة، بل تطال القطاع الخاص، إذ يؤدي التأخير في إنجاز معاملات البضائع المكدسة في مرفأ بيروت إلى تكبيد التجار مصاريف إضافية عبارة عن بدل رسوم أرضيات للكونتينرات، تتراوح يومياً ما بين 50 إلى 200 دولار، إضافة إلى أن بعض البضائع معرضة للتلف، معتبراً أن كل يوم إضراب يعني كلفة إضافية على التجار.
ولفت إلى أن استمرار تكبد التجار خسائر كبيرة سيؤدي إلى ارتفاع في أسعار السلع، لا سيما أن البواخر القادمة قد لا تتمكن من تفريغ حمولتها في المرفأ بسبب البطء الحاصل سيزيد من كلفة إيصال البضائع.
تسبب الإضراب أيضاً في رفع نقابة تجار ومستوردي المشروبات الروحية أسعارها بسبب الكلف الباهظة الناتجة من التأخير في إنجاز المعاملات. ولفتت النقابة في بيان، إلى أن “الشركات المستوردة تتحمل رسوماً ومصاريف باهظة ناتجة من تسديد كلفة الشحن إلى الشركات الأجنبية بالعملة الصعبة النقدية، وكذلك رسوم أرضيات المرفأ، الأمر نفسه بالنسبة إلى قطاع صناعة المواد الغذائية، الذي سجل خسائر بسبب تراجع الإنتاج في المعامل نتيجة العجز عن إدخال المواد الأولية المستوردة وعدم كفاية المخزون.
حرب باردة
وفي هذا السياق يوضح عميد كلية إدارة الأعمال في جامعة القديس يوسف الأكاديمي فؤاد زمكحل، أن الإضراب المفتوح لموظفي القطاع العام يشل البلد ويزيد التكاليف على القطاعات المنتجة باعتبار أن تعطيل المرافق العامة يكلف الخزينة خسارة موارد مهمة في وقت هي بأمس الحاجة لتأمين واردات وتمويل الحد الأدنى من الخدمات العامة، كذلك الإضراب يشل التبادل التجاري، والعمل القضائي وينعكس على عرقلة شؤون القطاع الخاص.
وأشار إلى أن الإضراب يفتح الباب أمام نشوء قطاعات عشوائية في دولة لا يوجد فيها قانون لضبطها أو لضبط تهريب الأموال ومنع عمليات تبييض الأموال التي تستخدم لإخفاء مصدر الأرصدة المالية التي يمكن أن تؤثر في أداء مجمل مكونات الاقتصاد اللبناني فضلاً عن تنامي الدويلات على حساب الدولة التي تضعف دور مؤسساتها.
ورأى أن انهيار مؤسسات وإدارات القطاع العام تؤثر بشكل سلبي محذرا من الاستراتيجية الممنهجة والمبرمجة لهدم ما تبقى من مؤسسات الدولة، معتبراً استمرار الإضراب سيؤدي إلى فوضى كارثية، باتت واقعاً أيضاً في القطاع الخاص الذي لطالما كان مستقلاً يجاهد ويستثمر، وكل مجموعة اقتصادية توظف طاقاتها وتتقدم على نحو مضطرد في كل القطاعات والمجالات المنتجة للحفاظ على دورها في المنطقة والعالم، مشيراً إلى أنه من المستحيل إعادة بناء لبنان بينما يمر اقتصاده بحرب باردة بين الموظفين والدولة.
طوني بولس – اندبندنت