خضر حسان – المدن
توصَفُ الأزمة اللبنانية بأنها من أعقد الأزمات وأكثرها سلبية. ومشكلتها الأكبر أن محاولات الإصلاح تصطدم برفض سياسي من السلطة المناط بها إيجاد الحلول. وتتزايد المؤشرات السلبية في ظل بعض المحاولات الدولية لتعويم السلطة الحاكمة، على حساب إجراء الإصلاحات التي طلبها صندوق النقد الدولي، لحصول لبنان على 3 مليار دولار، تكون بمثابة المدخل للإنقاذ، رغم عِلم الصندوق أن المبلغ غير كافٍ.
لكن المعطيات السياسية والاقتصادية الداخلية والدولية، لا تشكِّل انقساماً محلياً حول إمكانية إيجاد حلٍّ قريب فحسب، بل تعمِّق الانقسام الدولي، وخصوصاً بين صندوق النقد والبنك الدولي.
بين التفاؤل والتشاؤم
ينخرط صندوق النقد بشكل أعمق من البنك الدولي في المسألة اللبنانية، كَونَ إعادة الثقة الدولية بلبنان، لا تلتئم إلاّ عبر الصندوق، بمعزل عن الشروط التي يطلبها، وتحديداً على صعيد الخصخصة ونظرته للقطاع العام.
ومع ذلك، لم يحصل لبنان سوى على اتفاق مبدئي مع الصندوق، في العام الماضي، لا يُفرَج بموجبه عن المليارات الثلاثة المتّفق عليها، إلا بعد تنفيذ إصلاحات بنيوية، تعيد بناء الاقتصاد وتستعيد الاستدامة المالية وتعيد هيكلة المالية العامة والقطاع المصرفي، وتزيد الإنفاق الاجتماعي وتعيد الاستقرار للعملة بدءاً بتوحيد أسعار الصرف.
تجاهَلَ لبنان أهمية إنجاز الإصلاحات في أسرع وقت، ففقدت الليرة أكثر من 90 بالمئة من قيمتها، ولم يفلح إقرار موازنة للعام 2022 في إقناع المجتمع الدولي أن الإصلاحات تسير بنجاح، وإن ببطء. ومع ذلك، بقي صندوق النقد متفائلاً بخروج لبنان من أزمته إذا التزَمَ بإجراء ما اتفق عليه مع الصندوق. وتحت هذا التفاؤل، رأى مدير دائرة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، جهاد أزعور، أنه “يمكن إنقاذ لبنان من الوضع الاقتصادي الذي يتخبط فيه”. ورَبَطَ في حديث إعلامي، هذا الإنقاذ بـ”تأمين أكبر حجم ممكن من المساعدات الإقليمية والدولية، التي تقدمها جهات قالت إنها لن تدعم لبنان من دون التأكد من أنه يسير في المسار الصحيح”.
المساعدات المقصودة هي مساعدات مالية. والمطلوب حسب أزعور هو “قدرة تمويلية كبيرة، ولبنان غير قادر على تأمينها”. ومرّة أخرى، الجهة التي تعطي الضوء الأخضر محلياً ودولياً على مستوى التمويل، هي صندوق النقد الدولي.
على العكس من ذلك، يقف البنك الدولي في موقع المتشائم، رغم أنه يشجِّع لبنان رسمياً على إجراء الإصلاحات للخروج من الأزمة. بل وافقَ البنك على تمويل خطة استجرار الكهرباء من الأردن والغاز من مصر لحلّ ازمة الطاقة، لكنه ربطها بالإصلاحات، وكان حازماً في ذلك.
تشاؤم البنك ليس مستجداً. بل لعلَّ الحزم الحالي مبنيٌّ على تجارب سابقة يعود أبرزها إلى العام 2018 حين كانت التحضيرات جارية لعقد مؤتمر سيدر في باريس. والبنك حينها كان يمتلك معطيات اقتصادية ومالية ونقدية تشير إلى الوقوع في أزمة محقَّقة إن لم يبادر السياسيون لتغيير طريقة إدارتهم للبلاد والكَفّ عن طلب المال الإضافي من الدول المانحة، بلا إصلاحات جذرية. ولذلك، أعلن أحد الاختصاصيين في البنك في نيسان 2018 أن لبنان “لا يستحق المساعدة. وأنه يستطيع إدخال بين 6 و8 مليارات دولار سنوياً من تطبيق القانون في ما يتعلّق بالجمارك وتحصيل الضرائب”.
وينتظر الصندوق الإصلاحات، فيما يعتبر البنك الدولي أن “الوقت قد فات”، وتحديداً في ما يتعلّق بـ”تعويم القطاع المالي، لأن الأموال العامة غير كافية وأصول الدولة لا تساوي سوى جزء بسيط من الخسائر التي تساوي 3 أضعاف الناتج المحلّي”.
الرهان على الخارج
يُبقي صندوق النقد ملاحظاته ضمن الأطر الاقتصادية والمالية والنقدية، لكن تحت الطاولة، يُدرك المسؤولون عن الملف اللبناني في الصندوق أنه “لا لزوم للمليارات الثلاثة المنتَظَرة، لأن الحل ينطلق من المساعدات العربية، ولذلك لا مساعدات دولية من دون تطمينات عربية”، وفق ما ينقله مصدر عن لسان أحد المسؤولين في الصندوق.
ويضيف المصدر ذو العلاقة الوثيقة مع مسؤولين في الصندوق والبنك، في حديث لـ”المدن”، أن الجهات الدولية غير غافلة عن أن الإصلاحات المطلوبة “لا تتم بلا حزمة ترتيبات سياسية أساسية تبدأ بانتخاب رئيس للجمهورية وتعيين حاكم جديد لمصرف لبنان وإصلاح قضائي، والترتيبات لا تُنجَز إلاّ بتوافق سياسي بين لبنان والدول العربية والولايات المتحدة الأميركية، التي بدورها تنظر إلى مصالحها مع الدول العربية وتحديداً المملكة العربية السعودية، ومن ناحية أخرى، علاقاتها مع الصين وإيران، لما للأخيرة من نفوذ في لبنان”.
وربطاً بالتباين في المواقف بين الصندوق والبنك، يجد المصدر التباين أمراً طبيعياً نظراً لـ”الارتباط الوثيق بين القرارات الأميركية وقرارات الصندوق. والقرارات تنتظر الانفراج السياسي. ولذلك، يقول المسؤولون في الصندوق أن المشكلة ليست في دفع الـ3 مليار دولار. والتفاؤل الذي يبديه المسؤولون في الصندوق، يأتي من مقاربة تقنية للملف، وبفصل تام عن السياسة، وهذا أمر غير واقعي. لكن البنك الدولي أكثر واقعية لأنه غير معني بشكل مباشر بعقد اتفاق مع لبنان للخروج من أزمته”.
يخسر لبنان الكثير من الوقت، ما ينعكس على الاقتصاد والنقد والأحوال الاجتماعية للسكّان، ولا يبدو أن السلطة السياسية تملك خيارات أخرى سوى التمسُّك بمصالحها كي لا تخسر كل شيء. وبانتظار الحلول الإقليمية والدولية، لا فرملة للانكماش الاقتصادي المتواصل منذ العام 2017، إلا بأموال خارجية يُدخلها التوافق السياسي، فقط لا غير.