نبيل مملوك وأصالة لمع ومحمود وهبة يصدرون دواوين أولى..
أنطوان أبو زيد
تقول نازك الملائكة في مستهل كلامها عن “بداية الشعر الحر وظروفه” “إن مثل هذه الحركات الأدبية التي تنبع فجأة بمقتضى ظروف بيئية وزمنية لا بد من أن تمر بسنين طويلة قبل أن تستكمل أسباب النضج وتملك جذوراً مستقرة وتلين لها أداتها، وليس من المعقول أن تولد ناضجة وإنما تبدو عيوبها كلما ابتعدنا منها وأوغلنا في الزمن باختباراتنا الجديدة واتساع آفاقنا” (نازك الملائكة قضايا الشعر المعاصر ص:38).
وإن يكن بعض ما أوردته الشاعرة والناقدة العراقية نازك الملائكة صحيحاً ويرقى إلى المسلمة، ولا سيما اعتبارها أن الحركات الأدبية الجديدة تحتاج إلى سنين طويلة لتنضج، ولعل هذا ما قصدته في تقديم بواكير الشعراء اللبنانيين الثلاثة نبيل مملوك وأصالة لمع ومحمود وهبة، فإن بعضهم الآخر لا يصح ههنا ما دام أن هذه الأعمال الشعرية تنتمي إلى نوع أدبي لم يعد جديداً، عنيتُ به قصيدة النثر.
البوح البسيط والمركب
ديوان نبيل مملوك (دار زمكان)
في باكورة الشاعر الشاب نبيل مملوك بعنوان “مشانق من لحية العتمة” الصادرة حديثا (دار زمكان 2022) 11 قصيدة مصوغة على نوع قصيدة النثر ومعدة على شكل نشيد مؤلف من مقاطع شعرية تتراوح بين مقطعين إلى 10 مقاطع وأكثر مما يحتاج إلى الوصف والتفصيل والتوقف عنده، ولئن عالجت القصائد الـ 11 أغراضاً ومواضيع مختلفة من مثل البوح بالحب “رسالة إلى امرأة ثلاثينية” أو مناجاة المرأة المفتقدة “مناجاة” أو التعبير عن هول الفاجعة في الرابع من آب (موجز 4 آب السماوي) أو تسليط الأضواء على مأساة كمتمادية “رحلة الميتين بتعب”، فإن الشاعر يختار لها لغة شعرية أقرب ما تكون إلى الفطرية الخام منها إلى اللغة المشغولة بعقل واع للتراكيب التي تصاغ منها قصيدة النثر العربية.
بيد أن تلك الفطرية الظاهرية والتي ربما تكون نتاجاً لتخير الأفكار المختزنة في وعيه و لاوعيه على وفرتها تخدم الشاعر في جعلها القارئ يركز على المعروض بوضوح حياله، عنيت به فكرة ومشهداً شعرياً بسيطاً غير مركب، وانطباعاً مقنناً في صور شعرية قليلة نسبياً، لا يطمح الشاعر منها سوى تظهير رأيه وحالاته وتصوراته عن الحدث والشخص الآخر، ولا سيما المرأة المحبوبة والمنفصلة عنه بأقل المناورات الأسلوبية الممكنة وبقدر قليل من البحث عن نظائر الكلام الأغرب، والأقدر على إحداث الانطباع بالتجديد في لغة قصيدة النثر الشعرية.
يقول الشاعر في قصيدته الأولى “مشانق من لحية العتمة” مخاطباً المرأة العربية في زمنه: “كل ما عليكِ فعله/ أن تُخرجي الثعابين/ من رأسكِ/ لا لبث السم…بل / لنثر الحكمة … ومن ثَم تنطلقين/ نحو أرصفةٍ يشتاقُ بدنُها/ الباردُ إلى أمومةِ خطواتك/ صدقيني جل ما يرعبهم/ أنهم مسلحون باليتم…” (ص:8-9)، داعياً إياها وبلغة الحجاج والمنطق إلى أن تعي مقدار الخداع في خطاب المتزمتين الدينيين الذين يرومون إقصاءها عن الحياة الاجتماعية وحصر وجودها في المنزل، إلى أن ينهي خطابه إليها بنوع من الإعلاء لأنثويتها في شيء من الوجدانية العامة: “يكفي أن الشجرَ يتعلم الشموخَ من قامتكِ/ يكفي أن تغارَ الثمارُ من صلابةِ نهديكِ/ لن تري الحرية/ إلا إذا اعتبرتِ للموتِ جناحين”.
سوريالية مقننة
ولو التفت القارئ إلى الصور الشعرية في القصائد الـ 11 في المجموعة لوجد أن الشاعر أعمل فيها سوريالية مقننة لم يذهب بها إلى حدود قصوى مثال: “منْ ملحِ العذابات/ صاغوا أنياب البحر”، “قدموا أنفسهم/ على طبقِ السفر”، “تعبر في عتمة العبارات/ كسيارات نحو المطلق السعيد”.
ومثل هذا السعي إلى التقنين وجعل اللغة طبيعية بل قريبة من المحكية ومن نقل المشهدية على صورة مبتغاة يدفعان الشاعر إلى السرد العادي من مثل: “وزير صار يحصي أعدادنا/ ودولة نسيَت أننا بشر/ فلم تعلن الحداد”أو: “في القدس سيمحو المقهور/ تاريخ المستعبِدين”. ومع ذلك يملك الشاعر نبيل مملوك كثيراً من خيارات الكتابة الشعرية القادمة والمبشرة.
اللحظة وخلاصية الشعر
ديوان أصالة لمع (دار أثر)
في إصدارها الأول بعنوان “التفاتة نحو نغمة خافتة” عن دار أثر ( 2022)، تباشر الطبيبة المقيمة في فرنسا مجموعتها الشعرية بما يشبه الـ “مانيفست” تعلن فيه منهجها أو رؤيتها الشعرية القائمة على استلهام اللحظة، وجعلها أساساً للتعبير الشعري المستند إلى تفكر فلسفي أو فكري مصوغ على هيئة مرافعة، أو تعليل فكرة تقول بلزوم تركيز الكائن على اللحظة الحاضرة معياراً ومنطلقاً للقول الشعري أداته، الصور الشعرية لا الخطاب، “قد لا نكون سعداء حقا/ لكننا/ الآن/ نبدو كذلك” (ص:12)
وعلى هذا المنوال تمضي الشاعرة الشابة لمع في تقليب كل فكرة محورية لدى كل قصيدة من قصائدها الـ 33 لتعرضها ومن ثم تتوسع في إيجاد أضدادها ومرادفاتها، ولا تتوانى عن إيراد الشواهد والأمثلة الدالة على صوابيتها أو خطلها إلى أن تبلغ الخلاصة المرجوة وخاتمة القصيدة المضبوطة.
ولئن أبدت الشاعرة أصالة قدرة واعدة على معالجة موضوع قصيدة النثر على نحو منطقي بل منهجي، وهذا من دلائل اتساع خزينها وثقافتها وهما أساس في بناء قصيدة النثر دلالياً، في غالب قصائدها على نحو ما شهده القارئ في قصيدة “الجسور/ عبور وشرود” و”هاجس” و “في متاهة اللون”، وإذ تفصل كلاً من الأفكار المحورية المشار إليها في العنوان فإنها تنحو في بعض القصائد منحى اللعب الوجداني – الغنائي الذكي نظير ما يلقاه القارئ في قصيدة “لم تكن”، والتي استخدمت فيها الشاعرة صيغة الإنكار وضمير الغائبة تاركة للقارئ النبه أن يحولها بدوره إلى الإثبات، ثم ينسب ضميرها إلى المتكلمة فيستخلص منها صورة للمرأة المتكلمة وهي قيد الهشاشة والانكسار والحزن، لا على النموذج الرومنطيقي وإنما على الصورة الواقعية الدرامية التي ترى إليها الشاعرة فتقول: “لم تكنْ من حجرٍ/ تلك المرأة/ الثابتة/ كصخرة./ لم تكنْ منْ خزَفٍ/ تلك المرأةُ/ الهشةُ/ كجناحِ فراشة/ لم تكنْ تبكي/ تلك المرأةُ/ الحزينةُ/ كليلٍ/ لم تكنْ تضحكُ/ تلك المرأةُ/ الجذلةُ/ كشلالِ ماءٍ””لم تكنْ/ تلك المرأة/ سراباً/ وما كانت حقيقةً” (ص:21-22)
وفي مقابل بعض الذرى الغنائية الوجدانية المشار إليها أعلاه، تلفتني في عدد من القصائد انسيابية سردية عادية تقصدت فيها الشاعرة خدمة البوح والسيرة واليوميات المنسابة، برابط حدثي واضح في قصائد “أخلع النهار عني” و”هكذا بدا الأمر” و”انتصار/ هزيمة” وغيرها ولكن على حساب الشعر، وإن في قصيدة النثر، الذي يستحسن فيه الإيجاز والتوتر والتوقف وتبديل وجهة النظر إلى الأشياء والإيهام بما يجاوز الحد الواقعي، وهي أمور تدركها الشاعرة وتتبناها لاحقاً: “أعلق مع الفستان الخمري/ كل غزل اليوم الرديء/ وأخلعُ مع خاتمي الذهبي/ ما علقً في يدي/ من رياء/ حينَ صافحتُ شخصاً لا أحبهُ”، “وحينَ أنتزعُ أقراطي الطويلة/ أفرغُ أذني/ من قصائد عن الحب/ يرددها الجميع” (ص:42-43). وأياً يكن فإن الشاعرة أصالة لمع أفلحت في رسم خط شعري واعد ستتضح معالمه مع توالي مجموعاتها الشعرية وكتاباتها.
لغة شعرية
ديوان محمود وهبي (دار النهضة العربية)
في مجموعته الشعرية الأولى وهي بعنوان “ليس حباً بل دعابة” الصادرة عن دار النهضة العربية لعام (2023) والمهداة “إلى سابين ذاك الحب الذي بي”، يباشر الشاعر اللبناني الشاب بدوره مساره الشعري الجاد وعبر لغته الشعرية المشغولة في 15 قصيدة يسعى من خلالها إلى تكوين عالمه الشعري غير الشقي ولا السعيد، ولكن الكافي لإقناع القارئ أن ثمة شاعراً ذا تجربة وأرض يتكئ عليهما ليبني فضاء شعرياً بين الخصوصية.
وليس أدل على هذا النهج لدى الشاعر وهبة المشار إليه أعلاه من القصيدة الأولى في المجموعة وهي بعنوان “موت سريع”، إذ يكرر الشاعر تركيباً أو صيغة جُملية 12 مرة على هذا المثال:”إليّ/ أيها السوادُ الخارجُ من الخوفِ/ أيها القلبُ العالقُ في كأس/ أيها العمودُ فوقَ تلة/ إليّ/ أيها الضبابُ…./ أيها القلبُ../ أيتها النوارس/ أيها الربيع…” (ص:9-13).
بين الذات والحبيبة والعالم
ولعل الشاعر قصد بهذا الاستدعاء عبر حرف المعنى الطلبي “إليّ” للحالات المعنوية من مثل القلب والسواد والمطر الأسود والصدأ المتراكم والعرق المتصبب، وللكائنات ذات الرمزية المعينة مثل النوارس والعمود فوق التلة وغيرهما، أن يشير في مفتتح قوله الشعري إن لديه كثيراً من الشواغل العاطفية والوجدانية والإنسانية مما يوجب عليه التوقف عندها لاحقاً.
ولو أتيح لي أنا القارئ أن أشمل بنظرتي القصائد الـ 14 الباقية في المجموعة الشعرية لقلت إن هذه القصائد توزعت أغراضاً أو موتيفات مختلفة، فمنها ما عالج صورة للذات مفارقة للمأمول وأدعى إلى التجرد والتخفف من كل شيء والتهيؤ للرحيل:”عارياً من كل شيء/ من نحولك/ من جحودك/ من رمالكَ/ عاريا كأرملة/ مثل الذين ماتوا سريعاً” (ص:14).
وقد يكون من قبيل إكمال هذه الصورة (الذات) رفدها بصورة الأب يعمد إلى نسجها على شكل تساؤل ممض عما يمكن أن يبقى من أثر لبنوة هي ظل أبوة، بل هي أبوة لم يتحقق فعل الحداد عليها، ويقول في هذا بقصيدته “دزينة قش”: “أنا أبي/ أجهلُ الآتي/وأدقق في الأشياءِ خلسةً/ أبذرُ جسمي دودةً في الأرض/ لمن هذه الجثة/ في الحلق/ لعله باتَ علينا / أن نُخرجَ هذه المراثي / من الحلق” (ص:15-16)
أما الحبيبة وإن تكن القصائد المخصصة لها قليلة نسبياً “مقاطع مجتزأة لامرأة أربعينية” و”رحيل” و”على بابِ سرتك”، فهي كفيلة بتظهير صورة مثالية تختلط السمات الحسية الملتقطة برهافة والأنثوية فيها بألوان الوجدان والحب المالئين فضاء عزيزاً في نفسه، وإن مفتقداً بعد غيابها: “فمكِ الساحرُ أعرفهُ/ أرميهِ نرداً في زاوية/ حجاباً على كتفي/ كي أعيش/ فمي لا مناص منه/ إلا بقيلة” أو: “الجنونُ وجهٌ آخر/ لقلبي/ تعالي هربي إلي أمراضكِ/ يكفي جلدُكِ ليصيرَ/ وسادتي لليلة/ فكي عزلةَ الصدر ساعةً/ دعينا نكسرُ هذا الأرقَ/ بالقبلِ والصداع/ بحَلَمة في الصدر مروسة” (ص:24-27).
لغة شعرية يتأنى فيها الشاعر محمود وهبة في اختيار معجمه، وتنخيل صوره لتأتي متناسبة وتضيف جديداً إلى حد ما إلى تراث الشعر بعامة، وقصيدة النثر العربية بعامة.وفي أي حال ينحو الشاعر على ما اتضح من أول أثر كامل له منحى القصيدة – النشيد ذات المقطعات العديدة التي تنطوي على تأمل مشوب بنفس رومنطيقي، طفيف في ما يصنع الكائن وما يحقق اندراجه في عالم قيد الاختفاء.
ولكن المقالة أياً تكن لن يسعها الإحاطة بأعمال الشعراء اللبنانيين الشباب (نبيل مملوك أصالة لمع محمود وهبة) الأولى، علماً أن ثمة كثيراً من المظاهر لم يتح للمقالة التطرق إليها، مثل خصوصية المعجم عند كل من هؤلاء وقضايا الهوية وأسلوبية قصيدة النثر لدى كل منهم والرموز المحملة دلالات وغيرها، مما يخضع لعامل الخبرة والتجربة والزمن، على ما تقول نازك الملائكة، وطبيعة الصور الشعرية وغيرها. وإلى حينه يمكن التأكد من نقاط علام لدى هؤلاء الشعراء، يسير القراء في ضوئها ويستحسنون.