حسن الدر-
لا بدّ من التّذكير ولو سريعاً بسياق الحراك الدّولي الّذي بدا مدروساً ومقصوداً، رغم غموض المواقف في الأشهر الماضية وصولاً إلى المواقف المستجدّة الّتي أطلقها السّفير وليد البخاري مؤخّراً.
بداية شباط الماضي شهدت العاصمة الفرنسيّة باريس لقاءً خماسيًّا ضمّ إلى فرنسا كلًّا من السّعوديّة وأميركا ومصر وقطر للتّباحث في الشّأن اللّبنانيّ وخصوصاً ملفّ رئاسة الجمهوريّة بعد مضي ثلاثة أشهر على انتهاء عهد الرّئيس السّابق ميشال عون.
اللّافت يومها عدم صدور بيان رسميّ عن اللّقاء، فحسب الناطقة باسم وزارة الخارجية الفرنسية «آن-كلير ليجندر»: «الاجتماع كان لكبار المسؤولين وبالتالي لم يكن مقرّراً اتّخاذ قرار فيه، ولهذا لم يكن لدينا أيّ إعلان نصدره».
ساد الغموض فكثرت التّحليلات والتّأويلات حول مضمون اللّقاء ومقرّراته، وذهبت بعض المخيّلات اللّبنانيّة إلى القول بأنّ المجتمعين اختلفوا فيما بينهم: فالفرنسيّون طرحوا اسم سليمان فرنجية لكنّ السّعوديين اعترضوا، والقطريّون طرحوا اسم قائد الجيش جوزف عون والفرنسيّون رفضوا، فيما تحوّلت أميركا ومصر إلى قوّة لحفظ السّلام بين الدّول المتصارعة على لبنان!
طبعاً هذا كلّه من نسج الخيال اللّبنانيّ، فممثّلو الدّول الخمس زاروا بيروت لاحقاً ووضعوا المسؤولين في أجواء لقائهم الباريسي والّذي كان يدور حول حثّ اللّبنانيين على الإسراع في ملء الشّغور الرّئاسي وفق مواصفات تراعي التّوازنات الدّاخليّة والمصالح الخارجيّة، وكان للرّئيس نبيه برّي موقف لافت يومها عندما قال لهم: «نحن نختار الرّئيس وأنتم تسهّلون مهمّة انتخابه».
مرّت الأيّام والأسابيع وبدأت تتضّح الصّورة:
كانت السّعوديّة تخوض مفاوضات مصيريّة مع إيران في الصّين، وهذا ما يفسّر مواقفها المرنة طيلة الفترة الماضية بانتظار نتائج جولات التّفاوض.
برزت إلى الواجهة المبادرة الفرنسيّة وبدأت تسلك طريقها بخطى مدروسة رغم ارتفاع نبرة الاعتراض لدى معارضي وصول فرنجيّة في لبنان، لكنّ الدّول الأربعة بقيت في المنطقة الرّماديّة: السّعوديّة تتحدّث عن مواصفات، الولايات المتّحدة الأميركيّة ستتعامل مع أيّ رئيس يختاره اللّبنانيّون، القطريّون قاموا بجولة استطلاعيّة في بيروت من دون الخوض في الأسماء، والمصريّون التزموا الصّمت الدّيبلوماسيّ.
كسر الرّئيس نبيه برّي الجمود في الملفّ الرّئاسي بإعلانه تبنّي فرنجيّة لأوّل مرّة بشكل صريح، ثم أيّد السّيّد حسن نصرالله موقف برّي، وبعد أيّام حدث زلزال «بكّين» الدّيبلوماسي بإعلان الاتّفاق التّاريخي بين الرّياض وطهران، تبعتها زيارة فرنجية إلى باريس بدعوة من مستشار الرّئيس «إيمانيول ماكرون» لشؤون الشّرق الأدنى «باتريك دوريل» الّذي حمل إلى الرّياض إجابات فرنجية عن أسئلتها.
بدأ المرشّح الوحيد سليمان فرنجيّة حراكاً داخليًّا لمواكبة التّطوّرات الخارجيّة، زار بكركي وأطلق سلسلة مواقف مدروسة بعناية، ثمّ أطلّ عبر قناة الجديد ليتحدّث بهدوء وثقة تعكس اطمئنانه إلى مسار التّسوية، وأعلن لأوّل مرّة عن تلقّيه إشارات إيجابيّة من السّعوديين عبر الفرنسيين.
ثمّ أكّد الرّئيس نبيه برّي الأجواء نفسها في حديثه إلى «اللّواء» الأسبوع الماضي، وجاءت جولة السّفير وليد بخاري أوّل من أمس لتؤكّد تلك الأجواء وإن لم يكن حاسماً في دعم فرنجيّة إلّا أنّ المتغيّر اللّافت في الخطاب السّعوديّ هو الانتقال من الحديث عن المواصفات إلى حثّ اللّبنانيين على ضرورة الإسراع في انتخاب الرّئيس لأنّ الفراغ يهدّد استقرار لبنان ووحدته!
مصادر متابعة وموثوقة تؤكّد بأنّ برّي كان مرتاحاً بعد لقائه بخاري ولم يكن يتوقّع أكثر من ذلك، وهنا يسأل مصدر في الثّنائي الوطني: الطّبيعي ألّا تدخل الدّول بلعبة الأسماء بشكل صريح وواضح، فلماذا نطلب من الرّياض ما لم تفعله طهران؟
في المقابل لم يكن لقاء بخاري مع رئيس حزب القوات سمير جعجع مريحاً للأخير، فالسّفير لم يعطِ للحكيم ما يداوي به توتّره الّذي بان في مقابلته الأخيرة مع قناة الجديد، وفي ردود حزبه على الرّئيس نبيه برّي نيابة عن قوى الدّاخل ودول الخارج، ولو سمع من بخاري كلاماً يوافق تمنّياته لأصدر بيان «شماتة» بالرّئيس نبيه برّي بعدما كان السّجال الأخير بينهما يدور حول موقف السّعوديّة تحديداً!
بناء على ما تقدّم، يمكن قراءة مواقف سفير المملكة العربيّة السّعوديّة على النّحو التّالي:
«لا فيتو على أحد»: موقف يدحض ادّعاءات المعارضة بأنّ المملكة ترفض وصول أي مرشّح ينتمي لفريق الممانعة، وهذا الموقف يعفي حلفاء الرّياض من الحرج في السّير بسليمان فرنجيّة، خصوصاً الوزير السّابق وليد جنبلاط ونوّاب السّنّة الّذين أعلنوا صراحةً انتظارهم موقفاً واضحاً من السّعوديّة.
«لا للتّعطيل»: موقف موجّه إلى الفريق الّذي يهدّد بتطيير النّصاب، أي جعجع وحلفائه، وهذه نقطة أساسيّة يجب التّوقّف عندها مليًّا، فمن يريد التّعطيل عليه طرح البديل وإلّا فعليه تحمّل مسؤوليّاته الوطنيّة!
«لا للتّحدّي ونعم لتوافق اللّبنانيين»: موقف لا يخلو من رسالة إلى جعجع أيضاً، فهو الوحيد الّذي يرفض الحوار مع حزب الله ويدعو إلى رئيس تحدّ، بل يعيب على النّائب جبران باسيل حرصه على عدم السّير بمرشّح يستفزّ الحزب.
يبدو واضحاً بأنّ مواقف طهران والرّياض متطابقة حول لبنان بتسهيل انتخاب رئيس الجمهوريّة من دون تدخّل مباشر وفق ما نصّ عليه اتّفاق بكّين، وعليه فإنّ التّوافق السّلبي على رفض فرنجيّة من قبل التّيّار والقوّات لا يخدم توجّهات الدّولتين المؤثّرتين في المنطقة، واللّتان تسعيان إلى تهدئة كلّ السّاحات وتثبيت الاستقرار السّياسي الّذي يلزمه حكماً نهوض واستقرار اقتصاديّ.
فهل يملك الثّنائي الماروني ترف الوقت في ظلّ المتغيّرات المتسارعة؟