هيام القصيفي – الاخبار:
ماذا تبقّى من المبادرة الفرنسية، حين يصبح التفاوض على الثلث المعطل هو جوهر مشاورات تأليف الحكومة؟ وأي حكومة اختصاصيين ومستقلين هي التي يجري التفاوض بشأنها، عندما يكون الخلاف محتدماً حول امتلاك رئيس الجمهورية، أي الفريق المسيحي ضمناً، وليس تحالفه وحزب الله، هذا الثلث الذي يخوّله «الصمود» في أي خلاف مع رئيس الحكومة؟ النقاش عملياً يدور حول هذا «الحق»، الذي سيمنح رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، بموافقة حزب الله، الذي يقف الى جانب حليفه كي لا يكون رأس حربة أي اشتباك مع الحريري، كما فعل حين لم يسمّه رئيساً للحكومة لكنه رعى تكليفه. هذا الحوار الجاري حالياً، لا يشبه بشيء المبادرة الفرنسية التي فشلت فشلاً ذريعاً. والأكيد أن لا علاقة له بالضغوط والمطالبات الشعبية في الأشهر التي سبقت تكليف الحريري واستقالة حكومة الرئيس حسان دياب تحت وطأة انفجار المرفأ وما بعده. بهذا المعنى، ليست مفاوضات التأليف، مع محاولة اجتراح أعراف جديدة، كاجتماعات المجلس الأعلى للدفاع، الا تكراراً للعبة محلية صرف، يعود بها صانعوها الى المربع الاول، بما يشبه تأليف أي حكومة سبقت مسلسل الانهيارات. وليس تأليف الحكومة وحده الذي بات يستعيد كل عناصر التجاذبات المحلية من دون أدنى اعتبار لكل المطالبات الشعبية.
فالسلطة الحالية، رئاسة جمهورية، حكومة مستقيلة، ومجلس نواب، ومصارف، وحاكمية مصرف لبنان، وقوى سياسية مؤثرة، تتعامل مع تأليف الحكومة بالطريقة نفسها التي تتعامل بها مع معالجات الانهيار الاقتصادي. لا بل إنها استفادت ممّا حصل في 17 تشرين الاول عام 2019، وتعلمت منه أسلوب تقطيع الوقت والصعود تدريجاً في خطوات قاسية ومؤذية، لكن مدروسة.
طوال 14 شهراً تمكنت هذه المجموعة، بالتكافل والتضامن، من ترويض اللبنانيين، الذين كان يفترض بحسب ما أفرزته مرحلة 17 تشرين، أن يثوروا مجدداً ويقطعوا الطرق ويعترضوا على هذه الإجراءات الاجتماعية والاقتصادية والمصرفية التي تمعن في إفقارهم وتجويعهم. لكن ما يحصل هو العكس تماماً. فإعطاء السم للبنانيين على جرعات، أثبت نجاحه في سحب الاعتراضات المطلبية وجعل اللبنانيين يرتضون بالأسوأ ويعتادونه. اعتاد اللبنانيون أن قيمة الليرة انخفضت وارتفع سعر الدولار مقابلها الى ما لا يقل عن 8 آلاف، واعتادوا أن يخفضوا قيمة مشترياتهم وأسلوب حياتهم، مجاراة لانخفاض رواتبهم، واعتادوا القبول بقرارات المصارف خفض قيمة السحوبات ومنع الحصول على أموالهم بالدولار، من دون أي احتجاج فعليّ. حتى أصبح غضب مواطن ما ظاهرة تتناقلها كل وسائل التواصل. اعتاد اللبنانيون ألا يجدوا ما يحتاجون إليه في المحال التجارية، وأن تقفل محال وتخرج من لبنان نهائياً، وأن يواكبوا حملات إعلامية تحت عنوان محاربة الفساد الوهمية عبر القضاء، في حين أن معظم القوى السياسية المتورطة في الفساد لا تجد من يلاحقها. تعوّدوا أن يسمعوا أن الذهب الاحتياطي قد يؤجر أو يباع، هذا إن لم يكن قد رُهن سابقاً من دون معرفتهم، وأن التغذية بالكهرباء ستنخفض في عام 2021 من دون السؤال عن كيفية تغطية عجز التغذية ومن يتحمل فاتورتها بعد الحملة التي شُنَّت على المولدات. تمكن العقل الذي يدير كل هذه التدابير من تمرير خطوات رفع الدعم على الدواء والطحين والمحروقات تدريجاً، بحجج مختلفة، وبخطوات صغيرة مدروسة، فلا تنقلب الأسعار فجأة بل على جرعات، تحت عناوين برّاقة، كوقف الدعم كي لا تستفيد منه سفارات ومنظمات أجنبية، ووقف التهريب واستفادة التجار والسرقات وعناوين أخرى لتعمية الأسباب الحقيقية التي تمعن في سرقة اللبنانيين. في الأيام الأخيرة، بدا النقاش يتجه نحو استخدام كلمات مبهمة، كترشيد الدعم وتحميل طبقة من التجار والميسورين مسؤولية خسائر وقعت في القطاعات المصرفية والتجارية والاقتصادية. وهذا نوع من تشتيت الانتباه، لأن ليس كل الميسورين هرّبوا أموالهم الى الخارج. هناك عائلات احتجزت أموالها «الشريفة» في المصارف، وتستعطي سبل تعليم أبنائها في لبنان أو خارجه، في مقابل سياسيين وأمنيين وفعاليات، لا يزالون يستفيدون من تغطية المصارف لتحويل أموالهم الى الخارج. وليس كل التجار (أدوية وطحين ومواد غذائية) والصناعيين سارقين ويفترض تحميلهم مسؤولية الانهيار الحاصل. والأكيد أن رفع الدعم عن المحروقات بحجة استفادة أغنياء أو منظمات أجنبية منه، وتحديد ماذا يجب أن يأكل اللبنانيون من منتجات تحتاج الى الطحين، أو حتى اعتبار أنواع من الأدوية كماليات، هو من أسخف الحجج التي قدمت، معطوفة على محاولة تغيير أسلوب عيش اللبنانيين بطريقة دراماتيكية. واضح أن السلطة، بكل مقوماتها، استفادت من الأشهر الماضية لتطويع ممنهج، كما فعلت مع تدابير منع انتشار وباء كورونا، وأعدّت نفسها سياسياً ومالياً وأمنياً. هناك استعداد أمني مسبق لمنع أي تطورات شعبية على الارض، وحالة جاهزية بعض الأجهزة لمواجهة أي احتجاجات ستكون معياراً لمرحلة سياسية حساسة، وكيفية التعاطي معها. لكن تبقى العبرة لدى القوى السياسية كافة هي في حجم اطمئنانها الواضح الى أن عملية الترويض أثبتت فعاليتها، وأنها لن تجد من يواجهها. فمرحلة تظاهرات تشرين «فلتة شوط» ولن تتكرر، ولو وقع انفجار مرفأ آخر أو تجاوز سعر صرف الدولار عتبة العشرة آلاف ليرة.