نبيل هيثم- الجمورية
نادراً ما حصل أن واجه بلدٌ في العالم طبقة حاكمة ومتحكمة، بهذا المستوى من الفجور، الذي ينافس فيه القائمون على شؤون البلاد والعباد أنفسهم في الفشل، حتى ليحتار المرء في تشخيص المرض النفسي الذي يعانون منه، والذي يتجاوز المازوشية.
كل ما يجري يشي بأنّ المتحكمين بهذا البلد، باتوا يجدون لذّتهم في تعذيب الناس. ربما كان يمكن الشك في هذا التشخيص النفسي قبل بدء «ورشة العمل» الخاصة برفع الدعم، أو «ترشيده»، ولكن ما كشفت عنه المشاورات الجارية حول هذه المسألة أتت لتشكّل دليلاً دامغاً، لا يقبل أية مراجعة، في أنّ السلطة الحاكمة قد دخلت في مرحلة ميؤوس منها، وبات من الصعب اخراجها منها.
اليوم بات رغيف الخبز – حرفياً وليس مجازاً – في دائرة الاستهداف المباشر، وفق فذلكات غريبة عجيبة، تفصّل بين «الخبز العربي»، وبين «الخبز الفرنجي»، وبين طحين أبيض وطحين أسمر، وبين هذا وذاك الكعك، وخبز الهامبرغر، وصولاً إلى «المنقوشة»!
الحسبة وحدها تثير الرعب. في حال رفع الدعم عن الطحين، سيعني ذلك أنّ منقوشة الزعتر التي كان سعرها 1500 ليرة (دولار واحد) ستصبح بحوالى 8000 ليرة، وقد تدخل بورصة سعر الصرف، ومنقوشة الجبنة التي كانت بحدود 3 آلاف ليرة (دولاران) ستصبح بحوالى 16 ألف ليرة، ما يعني أنّ رفيقة صباحات الفقير و»ترويقته»، ستكون لقمة صعبة، شأن الكثير من السلع التي استغنى عنها المواطن الفقير، والتي بات يخاطبها حين يراها في رفوف المتاجر المكدسة قائلاً «أراك في جنة الخلد»!
أما رفع الدعم عن المحروقات، فيعني أنّ سعر صفيحة البنزين سيرتفع من 25 ألف ليرة لبنانية إلى حوالى 70 ألفاً، أي ما يوازي 10 في المئة من الحدّ الأدنى للأجور، الأمر الذي يستدعي ارتفاعاً موازياً في مجمل الأسعار بالتبعية.
اذا كان الاستخفاف بحياة المواطن قد طالت لقمة يومه من الخبز، فماذا عن باقي السلع الاستهلاكية الأخرى، من غذاء ودواء ووقود؟ وكيف يمكن ألّا يجد القائمون على حكم البلد سوى معيشة الفقراء لحماية الاحتياطي النقدي من النضوب، مع أنّ القاصي والداني يدرك منبع ومصب مزاريب الفساد التي سلبت اللبنانيين أموالهم منذ 30 عاماً، ولا أحد يتحرّك لاستعادة، ولو النذر القليل منها، بما يجنّب لبنان، ليس مصير اليونان أو فنزويلا… إلى آخر تلك الدول التي عانت من أزمات اقتصادية ومالية حادّة، وإنما مصير الصومال.
هذا الاستخفاف في حياة المواطن بات يتجاهل حتى المعايير البديهية، والتي تبدّت بالأمس في تحذير اممي، من أنّ إلغاء الدعم في لبنان بدون ضمانات لحماية الفئات الأكثر ضعفاً سيصل إلى حدّ كارثة اجتماعية، قد يصبح فيها الانفجار الكبير تحصيلاً حاصلاً، حين يتحوّل متوسطو الدخل إلى فقراء يتشاركون مع أخوتهم في الهمّ المعيشي نمط الفوضى الاجتماعية، التي ستتخذ، عاجلاً أم آجلاً، أشكال تحرّك تتراوح بين العنف الموجّه ضدّ الكل، ابتداءً من المصالح الاقتصادية والمؤسسات الرسمية، وصولاً إلى قلّة ستكون قادرة، ولو بشق النفس، على تأمين بعض من خبزها كفاف يومها.
المشكلة الأكبر أنّ الكل بات مدركاً بأنّ هذه التدابير، وبالرغم من طابعها المؤلم، ليست سوى مسكنات لن تؤدي الى وقف نزيف الدولار، طالما أنّ المنظومة الفاسدة من أدنى قاعدة الهرم إلى رأسه، لا تزال ترمي بكل أثقالها على المواطنين، حتى من بوابة متطلبات حياته البديهية، وهي عجزت أو تجنبت حتى الآن تقديم أية تفسيرات حول ما جرى خلال الأشهر الماضية، ابتداءً من اختفاء الدواء، وتقنين المحروقات، وشح الدولار، واستمرار السلع الأساسية في التحليق، بالرغم من الانخفاض المؤقت الذي شهده سعر صرف العملة الخضراء، يوم استبشر اللبنانيون خيراً بالتكليف، قبل أن يتبدّد هذا «الخير» مجدداً في تعثر التأليف.
كثيرة هي الأسئلة وقليلة هي الإجابات، ولكن السؤال الأكثر حيرة، يبقى متصلاً بالملف الحكومي، والذي يستغرب فيه المرء كيف يمكن للقائمين على هذا الملف المماطلة في عملية التأليف، الذي يجمع الداخل والخارج، على أنّه بات أكثر من ملح وضروري، وبأنّ التأخير فيه تتضاعف أثمانه على مختلف الصعد الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية وحتى الأمنية، على النحو الذي تردّد أخيراً بشأن وجود مخططات لعمليات اغتيال وما شابه.
ثمة من لا يزال يعتقد أنّه يمتلك ترف خسارة الوقت واستنزاف الفرص، بانتظار لحظة حاسمة يضطر فيها الخصم لتقديم تنازلات سياسية، يحوّلها في رصيد سياسي نفد منذ فترة طويلة، وبات استرجاعه، حتى وإن تحقق، مجرّد ترف، طالما انّ البلد ينهار، على نحو يشكّك فيه كثيرون في أنّ ثمة جمهورية ستبقى، لكي تكون هناك طموحات لشخص أو لآخر على رئاستها.
ضمن هذ المشهد العبثي تسير الحركة المستجدة على خط بيت الوسط – بعبدا، والتي تبدّت في الزيارة العاشرة للرئيس المكلّف إلى القصر الرئاسي، بعد جمود استمر نحو ثلاثة أسابيع، ومرشّح لأن يستنزف فترة أطول بكثير.
صحيح أنّ مصادر مواكبة للقاء وصفت أجواء اللقاء بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف بـ»المقبولة»، وتحدثت عن نقاشات وطروحات وحلول ممكنة للعِقَد العبثية، إلّا أنّ المناخ العام، داخلياً وخارجياً، لا يشي بأنّ الاختراق ممكن… أكثر ما يمكن أن تخرج به تلك الحركة التي تبدو بلا براكة، مجرّد الاتفاق على استمرار السير في الحلقة المفرغة!
بهذا المعنى، فإنّ ما سُمّي «كسراً للجليد» على مسار التأليف بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري، لا يمكن وضعه إلاّ في إطار المساعي الشكلية التي تبدو أقرب إلى حفلة علاقات عامة لإرضاء ايمانويل ماكرون، بعد اعلانه عن نيته القيام بزيارته الثالثة إلى بيروت خلال الشهر الحالي، بما يضمن تجديد الأمصال واعادة ضبط آلة التنفس الاصطناعي لإنعاش المبادرة الفرنسية، التي استنزفت الآمال بشأنها إلى أقصى حدّ، وهو ما دفع الرئيس الفرنسي إلى التعبير عن خيبة أمل، حين قال خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيره المصري عبد الفتاح السيسي، انّ «لبنان يعاني من عدم تنفيذ المسار السياسي المطلوب، ويجب ألّا يبقى الشعب رهينة بيد أي طبقة سياسية».
حتى الزيارة الماكرونية المنتظرة قد لا تحرّك الجمود قيد انملة، فالكل بات يضع بيضه في سلّة جو بايدن، وعلى هذا الأساس، فإنّ الأجواء العامة تشي بأنّ لا حكومة قبل أن يدخل الأخير البيت الأبيض في 20 كانون الثاني المقبل، لتبدأ جولة الرهانات والمقامرات المتجددة، على دور اميركي مختلف… لكن هل يبقى لبنان حتى ذلك التاريخ؟ من الواضح أنّ كثيرين يشكّون في ذلك!