سلوى بعلبكي – النهار
يوماً بعد يوم يرسّخ الذهب النظرية التي لازمته منذ زمن باعتباره “الملاذ الآمن” للاستثمار من منازع محلياً وعالمياً، خصوصاً في زمن الاضطرابات الاقتصادية. محلياً يبدو الأمر بديهياً مع فقدان اللبنانيين الثقة بالقطاع المصرفي الذي لطالما كان جاذباً لجنى أعمارهم ومدّخراتهم حتى عام 2019 بداية الأزمة التي عصفت بكل عوامل الثقة الاقتصادية والمالية في لبنان. أمّا عالمياً فثمة عوامل عدة تضافرت، قد تسهم بسحب البساط من تحت أقدام الدولار الذي يُعدّ سيد العملات في التجارة الدولية منذ السبعينيات حتى اليوم، والاتجاه نحو الذهب الذي ارتفع سعره أمس الى أكثر من 2023 دولاراً للأونصة الواحدة. من هذه العوامل إسراف الإدارات الأميركية المتعاقبة في استخدام سيف العقوبات الاقتصادية لإرغام دول أخرى على تغيير سياساتها، بما أدّى الى رد فعل عكسي تمثل بتنامي نهج التخلي عن الدولار واستخدام العملات المحلية للدول المعنية أو مقايضة السلع والخدمات أو استخدام الذهب. توازياً، خفضت الصين ارتباطها بالدولار، فبدأت عام 2018 بإبرام صفقات نفطية باليوان الصيني المدعوم بالذهب، فيما دفعت حرب أوكرانيا دولاً عدة تتعامل مع روسيا الى إجراء مبادلاتها التجارية معها بالروبل أو بعملات وطنية أخرى، يضاف الى ذلك المخاوف حيال استمرار الفيديرالي الاميركي في رفع الفائدة.
وبالعودة الى لبنان، تشهد السوق المحلية إقبالاً غير مسبوق على شراء الذهب وتحديداً الأونصات والليرات الذهبية التي لا تفقد من قيمتها على غرار “الذهب المشغول”، بما أدّى إلى فقدانها من السوق. هذا الإقبال الكبير عزاه كثيرون الى اتجاه غالبية اللبنانيين للتخلص من الدولار المخبّأ في منازلهم خشية فقدان العملة الأميركية لقيمتها. فالذهب، وإن حصل وتراجع بعض الشي، فإنه على خلاف العملات الورقية، لا يفقد قيمته أو يلحق الخسارة بمقتنيه على قاعدة “الذهب يمرض ولا يموت”.
في هذه الفترة تحديداً حيث ترتفع وتيرة الاضطرابات الاقتصادية والسياسية، يعود الحديث بقوة عن الذهب كملاذ آمن للاستثمارات عالمياً. ويبدو الأمر بديهياً برأي الباحث والخبير الاقتصادي زياد ناصر الدين مع تضافر عوامل عدة، منها توقعات برفع الفوائد في الولايات المتحدة الأميركية، وهو إجراء ينبئ بحدوث خطر ما، بدليل ما حصل في لبنان وفي الكثير من الدول التي لجأت الى رفع الفوائد على سنداتها وعملتها. فالعوامل تبدأ برفع الفوائد الاميركية التي تتخطى حالياً الـ4.5 و5% في المصرف المركزي، ولا تنتهي مع طبع كمّيات كبيرة من العملة الأميركية وإفلاس مصارف عدة وخطر إفلاس مصارف أخرى في الولايات المتحدة، كما بروز حالة تضخم كبيرة في الولايات المتحدة والعالم بعد جائحة كورونا، فيما الدولار الذي كان عملة أحادية، بدأ يفقد بريقه في ظل الصراع الصيني الأميركي. هذه العوامل وفق ناصر الدين “جعلت الناس يشعرون بأن هناك جزءاً من خطر معيّن، وتالياً توجّهوا الى شراء المعادن وفي مقدمها الذهب الذي يُعدّ ملاذاً آمناً وحماية لا تفقد قيمتها مثل عملة الدولار الورقية الذي تتم حمايته بالسياسة والبترودولار ومصادر الطاقة”. اليوم ثمة توجهات جديدة في العالم وخصوصاً بالنسبة للتعامل مع عملة اليوان الصيني والعملات المحلية، وتالياً فإن بيع النفط والغاز من الخليج الى الصين باليوان الصيني، يعني أن هناك جزءاً معيّناً من الطلب على الدولار سيخفّ. أمام هذا الواقع يستنتج ناصر الدين أن “ثمة قلقاً في العالم من الهبوط الكبير لقيمة الدولار خصوصاً أن قيمة الناتج المحلي في الولايات المتحدة وصل الى 21 ألف مليار دولار، فيما قيمة الدين 31 ألف مليار دولار، في مقابل كلام جدّي عمّا يمكن أن تؤول إليه الأمور إذا تخلفت الولايات المتحدة عن سداد ديونها، وهذا يعني أننا سنواجه مشكلة أكبر في انخفاض قيمة الدولار وارتفاع سعر الذهب”. ويخلص ناصر الدين الى المعادلة الآتية: “كل خلل في قيمة الدولار، سيقابله ارتفاع أكبر على الذهب”.
أما في لبنان، فإن ضياع الودائع في المصارف، وامتلاك عدد كبير من اللبنانيين للفريش دولار في منازلهم والأسواق، ومع القلق الحقيقي من أن تفقد العملة الأميركية قيمتها والتسبب بكارثة في غنى عنها، اتجه اللبنانيون الى الطلب الهائل على الذهب وخصوصاً على الليرات والأونصات على اعتبار أنه يمكن تسييلها بسرعة. ولاحظ ناصر الدين أن “كمية الذهب التي تم شراؤها في لبنان في عام 2022 هي بقيمة مليار و37 مليون دولار، وهو واقعياً رقم مرتفع جداً مقارنة مع عدد سكّان لبنان، وتالياً هو مؤشر على تراجع الثقة بالدولار الاميركي”، لافتاً الى أنه خلال 6 أشهر ارتفع سعر أونصة الذهب من 1509 الى ما يقارب الـ 2025 دولاراً.
على غرار عام 2022، لا تزال محال المجوهرات اللبنانية تشهد إقبالاً لافتاً وغير مسبوق من المقيمين والمغتربين على حد سواء على شراء “الأونصات” و”الليرات الذهبية” مقابل انخفاض الطلب على “الذهب المشغول” على اعتباره ذهباً مصوغاً ويمكن أن يخسر من قيمته. هذا ما يؤكده رئيس نقابة تجار الذهب والمجوهرات نعيم رزق لـ”النهار”، فعلى الرغم من غياب الأرقام الدقيقة حيال حجم المبيعات في الأشهر الأربعة الأولى من هذه السنة، يبدو واضحاً أن الطلب على “المعدن الأصفر” يرتفع كثيراً، لافتاً إلى أن نسبة المبيعات في عام 2022 حققت أرقاماً قياسية ناهزت حجم أرباح محققة في 10 سنوات سابقة.
صحيح أن بعض المحال لا تشهد حركة ناشطة كسائر المحال، وذلك لتعاملها فقط بالذهب المشغول نتيجة الربح الضئيل التي تجنيه من الأونصات والليرات الذهبية الذي لا يتجاوز 5 دولارات، بيد أن المحال الكبرى التي لديها كمّيات كبيرة من المعدن الأصفر بأنواعه كافة، تشهد حركة بيع لافتة ودائمة على الأونصات والليرات بما يبرر الشح الكبير في الأسواق نتيجة ازدياد الطلب محلياً في مقابل انخفاض الكمّية المعروضة المستوردة من الخارج، وفق ما يقول رزق الذي يشير الى أن التاجر يبيع ما لديه في انتظار تسلمه كميات أخرى تكون غالباً محدودة وغير كافية لتلبية حجم الطلبات المحلية.
ويستند رزق إلى أرقام مجلس الذهب العالمي، ليبرر الإقبال العالمي على شراء الذهب استبدال العملات الأجنبية بالمعدن الأصفر، وفي مقدمها ما يشير إليه التقرير بأن بعض المصارف العالمية لجأت إلى زيادة قيمة احتياطاتها عبر شراء 60% من الذهب في مقابل 40% من عملات ورقية، كما أولت بعض الدول اهتماماً كبيراً بزيادة احتياطاتها من الذهب.
الى ذلك، يلفت رزق الى عوامل أخرى، مثل إعلان بعض المصارف الأميركية إفلاسها، توازياً مع الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية مع شرط التعامل باليوان الصيني بما له من دلالة على انخفاض الثقة بالدولار الأميركي، فضلاً عن شراء شركة فرنسية كمية كبيرة من البترول الروسي بالروبل إضافة إلى لجوء بعض “مالكي الدولارات” من رجال أعمال في العالم إلى تحويل جزء من ثرواتهم من العملة الورقية إلى المعدن الأصفر.
في المحصلة، يبقى ادّخار الذهب في ظل هذه الأزمات أضمن وأكثر أماناً من ادّخار الدولار وكذلك سيبقى للذهب مزاياه الفريدة الخاصة به خصوصاً أنه ثروة مالية عابرة للأجيال والقارات يعتمد عليها الأفراد والمجتمعات والدول كافة.