الكاتب – نصري الصايغ
عيب. اللاجئ إنسان. النازح السوري إنسان. أنت أيها اللبناني إنسان. فلماذا التفريط بقيمة الإنسانية، أعلى مرتبة في سُلم القيم والأخلاق. لماذا التعامل مع حاملي المأساة بهذه اللعنات اللبنانية؟ لماذا التعامل معهم كأنهم أشياء؟ أو كأنهم مرمى سياسي؟ أو كأنهم وباء بشري؟
عيب. النازح ليس مسؤولاً عن نزوحه. اللاجئ كذلك. وأنتم أيها اللبنانيون. عرفتم النزوح والتهجير، وعانيتم 15 عاماً ونيف، من الإبتذال الطائفي. الآخر الذي لا يشبهني يتم تشكيله وفق السم السياسي والطائفي.
النازحون مشكلة، بكل تأكيد، ومشكلة متعددة الآلام والمخاوف. بل إن النزوح السوري صعب جداً، والحلول ليست بيد اللبنانيين، برغم الصراخ اللبناني المفاجئ بنبرته وعنصريته وتوظيفه السياسي المحلي. النازحون السوريون من حقهم أن ينشطوا كي يطمئنوا إلى مصيرهم بعد العودة. مراكز القرار الدولية مشغولة بأمور عظمى مأساوية وتجارية أيضاً. الحروب تُنتج قتلاً وسلعاً بشرية. لا قيمة للإنسان في الحروب.
المشكلة صعبة وخطيرة جداً. في لبنان، لبنانيون يعيشون هاجس العدد. يخافون من خسارة “أكثريتهم” الوهمية. ومن حقهم أن يخافوا، لأن حصتهم من لبنان تتضاءل، وقد تزول بسبب اللاتوازن في الإنجاب والإخصاب. ومعروف أن الأقليات المتناقصة، في المنطقة، مهددة بالاندثار. العراق فرغ من أقلياته، يعيش يوميات دموية بين المذاهب والأرومات. وهو منشغل حتى القتل في إقامة سِلم الأعداء، ما بين السنة والشيعة. الأقليات في سوريا على شفا نزاع خطير، هو غير مكتوم راهناً. ولكنه حاضر برغم تغييبه.
هذه كلمات لا تُقنع أصحاب النظريات العقائدية. ولا يتفهمها الوطنيون الغيارى على توحيد الأمة. الحقيقة بائنة: كياناتنا هشة ومكتومة التعبير وملجأها السري، هو مذهبها، طائفتها وأرومتها. وعليه، فإن لبنان، خريطة مكتومة لـ”التعدد الآثم”.
ثمة قارة عربية تعيش وتتعكز على أحقاد وتبعيات، وليس في “ذمتها” أبداً أية قناعة بأن الأوطان تُبنى بمواطنين؛ بمواطنين ممارسين لهويتهم الوطنية. الكيانات العربية منعت المواطنة، وتُلزم الناس بالعيش معاً، برغم الأحقاد المزمنة، والفرز التاريخي.
عيب، وألف عيب؛
انشغل اللبنانيون بطق حنك سياسي. مطحنة كلمات وتصريحات ومواقف، لم تنبت حلاً لأي معضلة. لبنان راهناً، “صندوق فرجي” لكل أنواع المآسي: سياسياً، مالياً، حقوقياً. سوق الإعلام كفيل بترتيل جنائزي لحالة لبنان، وفي شن غارات كلامية سوقية، في كل ما له علاقة باللا سياسة. طبعاً، ليس في لبنان سياسة، برغم فائض الحرية. هو متفوق في جعل الهراء المذهبي، عقيدة لبنانية معقدة.
نحن عشنا فروض الإنشاء السياسي. إصرار على التغيير. غريب. من سيُغيّر؟ لبنان تحت خط الحياة. كسيح وشحاد وعنصري. لا يطيق الإقامة إلا في الصفوف الأمامية المتناحرة.
قليل من الماضي، نُزوِّره، كي نرى أحوالنا، كما كانت، بلا زيادة، بل وبنقصان. تذكروا مجزرة الدامور.
وحدث أن “فلت الملق” لبنانياً. تناسى الأشاوس اللبنانيون ودائعهم. غضّوا غضبهم عن المرتكبين، من رأس الهرم إلى أدنى القذرين. الشاشات الناطقة بالأمراض السياسية والفائزة في الشحن الانحيازي، داخلياً وإقليمياً ودولياً، افتتحت معركة دونكيشوتية لا تُفضي إلى حسم.
هذا أمر سياسي معروف. قرارات لبنانية، “يوك”. القرارات الدولية، ليست في وارد عودة السوريين. تريد ثمناً لذلك أو أثماناً. النازحون، عملة نادرة بيد الغرب.. و”إسرائيل” كذلك.
كل هذا معروف ومتداول. لكن اللغة العنصرية اللبنانية، راحت تُصوّر النازحين بأسلوب يغالي في عماه. نعم. عماء مقصود. النازح السوري بات وباءً. بات خطراً على الصيغة (وهي صيغة قاتلة). النازح يقبض من “الأمم”، واللبناني يتسول من المنصات المصرفية، قوت شهره وعذاب قهره.
رسمت الصحافة ووسائل الاعلام، النازح السوري كأنه مكتمل العافية، وأنه بات أكثر يسراً من اللبنانيين ورواتبهم. ثم تسللت كاميرات التلفزة الى تخوم المخيمات، كي تؤكد على أن قاطنيها المخيمات يسرقون كهرباء الدولة (يا عيب الشوم. على الأقل، ساووهم بالمناطق الممنوعة على جباة فواتير الكهرباء).
هل يعرف اللبناني، ماذا تعني كلمة لاجئ أو نازح؟ هل زار مخيماتهم البائسة؟ هل امتهن التسخير في المعامل والمصالح و…؟ هل غاص بالوحول؟ هل دخل خيمة وعدَّ من فيها، وهل أدرك كيف يتدبر هؤلاء أمورهم بالتي هي أسوأ؟ بماذا يغتسلون؟ بماذا يفكرون؟ هل يرغبون بالعودة الطوعية لا الإكراهية؟
لقد صوَّر الاعلام، السوري كأنه يعيش حياة برجوازية أو أنه متفرغ للإنجاب، فيما اللبنانيون هبطوا الى مستوى البروليتاريا الرثة.
نُكرّر، وبرغم كل الأعطاب اللبنانية، تناسى رواد السيادة مسألة النزوح. ومنذ عام تقريباً، علت أصوات السياديين: “خائفون على لبنان من السوريين”. أعدادهم تتناسل بمعدل خرافي.. صبّ اللبنانيون جام غضبهم على السوريين، علماً أن من سرق أموالهم، هم زعماؤهم ومصارفهم ومرجعياتهم وليس النازح السوري. انصب حقد اللبنانيين على النازح السوري. فتشوا عنه، فوجدوه مُرفّهاً. يُنجب سنوياً. ينافس العمال والمعترين اللبنانيين. (فكروا فيها). “مجوييَن”. “بطن ينطح بطن”. ولادات وتكاثر. شيء مخيف. اللبناني قاصر جنسياً، ولا يتحمل مسؤولية “عر ولاد”.
إذا كان من حق اللبناني أن يخاف، لأن لبنانه مخيف، كان بإمكانه أن ينشد خارطة طريق، يلتزم فيها الغرب والشرق وسوريا وإيران بعودة النازحين. مشكلة النزوح لبنانية. ولكن مصير هذا النزوح في يد العالم المتحكم بقضية هؤلاء الناس.
الغريب والذي يثير الاشمئزاز، هو النظر إلى السوري، على أنه مصاب بكل اللوثات ولا يمت إلى ما يشبه اللبناني المُرفّه. وعليه، لا يُعامل اللاجئ والنازح كبشر، بل كجماعات دون مستوى “الحضارة اللبنانية”.
يا ناس؛
السوري إنسان أولاً. الفلسطيني إنسان أولاً. تعاملوا معه أو قفوا ضده، إن شئتم، لكن كونوا منتمين إلى القيم والأخلاق.
اللاجئ إنسان هارب من بلاده. يعيش في مخيمات. هل زرتم المخيمات؟ هل دخلتم خيامهم؟ هل تعرفون كيف ينامون؟ كيف يغتسلون؟ يا للعار..
نحن أسوأ الشعوب. هذا السوء ورثناه من غرب عنصري حتى الثمالة.
إحدى الشاشات، قررت تغطية العيش في المخيمات. وجهت الكاميرا نحو عمود الكهرباء، لتكتشف ان سكان المخيم يسرقون الكهرباء.. إنهم محرومون منها غالباً.
عند هذا الكلام، أتوقف لأقول: عيب. عيب. عيب، سياسياً وأخلاقياً ودينياً.