عبد الغني طليس- الاخبار
إذا كان القدَر الأسوَد قد حكَم على لبنان أن ينتهي فيه المسرح الغنائي الاستعراضي، برحيل آخر العباقرة الكِرام منصور الرحباني، فمعنى ذلك أننا سنعيش فوق الزمن المُرّ زمناً أمَرَّ وأخطر، وسنفقد من الشخصية الفنية اللبنانية أحد أبرز الأشكال الفنية:
المسرح الغنائي، الذي صنعَ مجداً لبنانياً حقيقياً في الفن العربي، وكوّنَ هُوية عالمية له انطلاقاً من الفولكلور البسيط العفوي مروراً بتباديع الألحان والرقصات والدبكة، وصولاً إلى الحبكات الروائية التي لا مثيل لها… من شخصيات التاريخ والحاضر!
لا أبالغ، ففي الوقت الذي كانت فيه المسرحيات الغنائية المصرية تنبض بعالَمِها الخاص، كانت المسرحيات الغنائية اللبنانية تتجاوز كل الحدود والألوان، وتتحدّى كل الإمكانات المؤطّرة بإنتاج محفوف بالمخاطر، وتبتدع مكانها عبر الأخوين رحباني وفيروز مع بعض الآخرين الأقلّ قدرة وتنوّعاً من الرحباني. كان المسرح الغنائي في لبنان يستدعي كبار الكبار في العالم العربي ليشاهدوا ماذا عند اللبنانيين في هذا المجال الرائد، وكان أولئك الكبار يدركون أنّ ما صنعَه لبنان مسرحياً واستعراضيّاً أكبر بكثير من كل المسرح الفني وحتى السينما العربية، إن من ناحية القصص أو رسْم الشخصيات أو التلاوين الغنائية والموسيقية أو الطرْق على أبواب الخلود عبر مستويات فنية ومعرفية مذهلة.
لا أبكي على الأطلال، لكن من حقّي، وأنا ابْن جيل مخضرَم شهِد مراحل زمنية فنية عدة، وشارك في العمليات النقدية والتحليلية لما كان يُقدَّم، وكتبتُ ولحّنتُ مسرحيتين لنجمتين جديدتين، كادتا أن تصلا إلى الخشبة ومنَعَتْهُما ظروف حروب البلد ( التي كأنها حصلَت ضدي شخصيّاً)… أقول من حقّي أن أصرخ في وجوه المنتجين ولجان المهرجانات ونجوم الغناء اليوم وهم قاعدون على راحتهم يراقبون انهيار القيم، أصواتاً وتسجيلات وأغنيات وكليبات، ويعرفون ما هي قيمة المسرح الغنائي ولا يلتفتون أو يسألون أو يتحرّكون في أضعف الإيمان بالكلمة. والكلمة هنا ليست الرأي فقط، بل التعاون في ما بين المعنيين لعَمَل شيء يعيد إحياء فنّ لبناني قدّم نبوغاً استثنائياً. وانطفأ مع آخِر رجالاته الأبرار!
مشكلتُنا الكبرى في المسرح الغنائي اليوم، لا كتابة المسرح ولا المال ولا الضعف في المواهب. مشكلتُنا أن نجوم الغناء لا يريدون أن يفعلوا شيئاً خارج ما اعتادوه: اختيار أغنية من هنا وأغنية من هناك… وكليبات وحفلات طبل وتزمير وتدمير!
وإذا كانت عقول بعض نجوم الغناء اليوم قاصرة عن إدراك ماهية المسرح الغنائي كما هي جَبَانة في تطوير ذاتها وتجاربها، فتلجأ دائماً إلى المساحة الآمنة عندها وهي الأغاني فقط، والكليبات فقط، فإنّ لكل لجنةِ مهرجاناتٍ دوراً في التثوير والتنوير وتحرير عقول هؤلاء النجوم من عُقدة الاكتفاء بالأغاني والنوم على حرير حفلات سهلة هيّنة كأنها من سقَطِ المتاع لا من حالة الإبداع التي تفرض تقدُّماً على الفنان وتدعوه إلى إكمال نهضة بناء صورة لبنان في جميع الأشكال المسرحية والموسيقية!
المهرجانات الفنية في بعلبك وبيت الدين والأرز وغيرها مسؤولة، هي قبل الآخرين من النجوم، عن لفت الانتباه إلى المسرح الغنائي في برامجها. ذلك أن الإمكانات (السبونسر) موجودة ومعروفة، لكنّ الخوف يسيطر عليها من تبديل التوجّه العام في تلك المهرجانات.
لا ندعو إلى جعل برامج المهرجانات حلبة مسرحية، فالمسرحيّات الغنائية نادرة الوجود، غير أنها موجودة ولا تحتاج أكثر من رعاية ماليّة ميسّرة، ومسؤوليتها هي تكوين إطار فني يضع المسرح الغنائي نصب عينيه ويقنع النجوم أن من الضرورة بمكان دخول المسرح واللعب على منصّته، وفي هذا إغناء كبير للتجربة الشخصية الفنية للنجوم ولحالة الفنون العامة في لبنان. إن الغرور الذي يتسابق نجوم الغناء في إعلانه عند الاتصال بهم لبطولة مسرحية غنائية، عبر طلَب مبالغ خيالية لقاء مشاركتهم في مسرحية استعراضية، هو غرور أرعن ورخيص ويكشف فوراً أنهم يعبدون رَبّين: المال والله بعد ذلك بدرجات. ويدل على مستوى فكري ضيق ومحدود، بل يدل على جهْل بقيمة المسرح وعناصر قوته وشيوعه بين الناس وتأثيره عليهم. لا يرى نجم الغناء أو نجمته عند عرض مسرحية عليهم إلّا ماذا سيقبضون لقاء ذلك. وإذا كان حقهم وحق شهرتهم أن يقوموا بذلك، فإن المنطق والعقل يفرضان النظر إلى المسألة من جوانب أخرى هي مدى الإضافة على فنونهم ومدى اكتساب قدرات أخرى.
فالمسرح يتطلّب أشخاصاً مثقلين بالحكمة غالباً، يدركون ما هي العلاقة المباشرة مع الجمهور ولا سيّما حين تحمل المسرحية بعداً وطنياً أو إنسانياً أو حتى حين يكون البعد الغنائي والترفيهي الكوميدي أوّلاً. فمن خلال المسرح، أنت تقول أشياء مهمة للفكر والذوق، في الدراما أو الفكاهة أو الرقص أو كل ما يجري على الخشبة. كثيراً ما ينقل الدور المسرحي نظرة مستقبلية تتجاوز هموم الناس الآنية، والناس ينظرون إلى المسرح على أنه تفريج عن مكنونات شعورية وعقلية ومزاجية، وعلى أنه لسان حالهم كذلك. فهل هناك أجمل من أن تؤدي كنجمٍ مسرحيةً يرى فيها الجمهور لا تسلية غنائية فحسب، وإنما فائدة معرفية فضلاً عن التسلية والّلهو اللذين تفرضهما المتعة البصرية في بعض الفنون على الخشبة؟ أعرف أنني أصرخ في وادٍ وأنه لن يسمعني إلّا قلة من مثقفي الغناء النجوم الذين يمتلئ وقتهم بالبحث عن الجديد المفيد السديد، ومع كل عمل يدرسون مدى الإفادة المعنوية لا المادية بحالها، وإن تكن المادة عصبَ الحياة.
من المعيب والمُخجل أن يتحرك نجم غناء أو نجمة غناء نحو المسرح الغنائي وفي ذهنه عقْدُ مقارَنة بين ما سيربح مادياً من مسرحية لمدة شهرين أو ثلاثة، وما سيربح في المقابل إذا صرف وقته المخصّص للمسرحية في حفلات متفرّقة بين لبنان والخارج. المقارَنة ساقطة على مستوى القيمة. ما هي قيمة حفلات متنقّلة ومال يأتي منها مقابل قيمةِ عملٍ مسرحي يوضع في الخانة الذهبية لأعمال الفنان؟ الحفلات تأتي وتذهب… مع رياح الأيام. أما المسرحية الغنائية المدروسة والمؤمَّن لها شروط النجاح في القصة والموضوع والأغاني والأبطال، فإنها تستمر معك، تُغْنيك وتُكتَب باسمك في سجلّ الإبداع، والمكسب المادي مهما كان مرتفعاً فيها يظلّ أقلّ من المكسب المعنوي لأن المعنى هو الأصل. غير أن السؤال كبير: من هو النجم الذي يفكر بهذه الطريقة الطليعية، فيبحث عن شروط استمراره في القيَم لا في المال، ونحن في زمن بات المال فيه كل شيء؟ اللهمّ إلا من كانت لهُ أو لها عَيْنا زرقاء اليمامة التي كانت ترى على مسافة السير ثلاثة أيام في البادية كأن تقول لقومها: «أرى شجراً يمشي»، فيكتشفون بعد ثلاثة أيام أن أعداءهم يتخفّون بأغصان شجر وهم يتوجهون إلى قتالهم!
هنا، لا قتال بين أحد وآخر. هنا المعركة بين من يتطلع إلى المستقبل بعين جامدة كما يقول جبران، وبين من لا يرى أبعد من خزانته، أي أبعد من أنفه. في الفنون، التطلع إلى الآتي بذهن صافٍ مفتوح وبأسلوب المتحكّم بظروفه الموضوعية من دون أي مراوغة أو تفشيخ أو كذب على النفس، هو الأصحّ والأسلم والأكثر رسوخاً وتألّقاً.
لو ظلّت فيروز تغني في حفلات ملأت الأرض، من دون المسرح، هل كانت هي فيروز التي نعرفها اليوم؟ وقيمة المسرح الغنائي والسينما في حياة صباح هل هي حبّة أو حبّتان؟
نصري شمس الدين، كل أغانيه الإفرادية ماذا كانت ستفعل له، لو لم يقف ركناً من أركان تجربة المسرح الغنائي الرحباني؟
أختم بواقعة:
قصدَ صديق لي «ابن مهنة جدية» يوماً لجنة مهرجانات كبرى، وفي يديه مسرحية غنائية كتبَها ولحّنَها لقصة يمكنُ القول إنه «لم يُخلَق مثلها في البلاد». الجواب الأوضح من فجورٍ كان:
«يجب أن تتفق مع كل أبطال المسرحية وتوقّع عقوداً معهم وتضع أرقاماً نهائية لمطالبهم وللتسجيل والإضاءة والديكور وفرقة الرقص وكل شيء، كل شيء. وتأتي لنا بالأسماء والأرقام. وعند ذلك، نقول لك إذا كنا سنقبل أم لا. فإذا قبِلنا، ينبغي العمل معاً من أجل تأمين التمويل لأن من كان يموّل «الليالي اللبنانية» في المهرجانات أوقف التمويل منذ عامين»، من دون أن تسأل سعادة اللجنة لا عن القصة المسرحية ولا عن أي شيء فيها!
أي، لكي تحظى بقبول اللجنة، لا يكفي أن تكتب وتلحّن مسرحيتك بعناية، بل ينبغي أيضاً أن تتلقّى دورات مكثّفة في الإنتاج وإدارة الفِرَق المسرحية وتخضع لتمارين قوية في الحسابات المالية، وأن تَدُورَ على دُورِ المتموّلين لتُحْضِر «السبونسر» اللازم.
ولو كنت أنت في كل هذه الأمور اللوجستية صفراً على الشمال، وأصغر نصّاب عابر سبيل يمكن أن يأكلك بلقمة ولا لزوم لأكمل لكم ماذا قال صديقي وهو خارج من مكتبهم!
الرجل كاتب وملحّن، وليس منتجاً ولم يوقّع عقوداً إنتاجية تنفيذية لوجستية مسرحية (وهذا عالمٌ معقّد وتفصيلي له أربابه) في حياته، فكيف له أن يفعل كل ذلك بنفسه من دون مساعدتكم اللوجستية المهنية، يا حضرات لجنة المهرجانات المحترَمة؟ ثم إذا أتى هو بالتمويل فما حاجته إليكم؟
أعود إلى المسرح لأقول:
ينبغي أن يجد المسرح الغنائي في لبنان أياديَ كريمة محترفة، لإكمال ما بدأه السّلَف الرائع، فنكون نحن الخلَف الذي يصنعُ الجمال ويتمّم الروعة.
أمّا لِجان المهرجانات، فلا لزوم لأن تقف عن كراسيها وتتحرّك، ويكفيها فخراً أن تضيء القلعة أسبوعاً أو اثنين من كل عام حتى نأنسَ بها بقية العام!