ندى عبد الرزاق – الديار
ان غاية حكومة تصريف الاعمال من اعتماد التسعير بالدولار، هو تحقيق الثبات المالي وحماية المستهلك، ووضع حد لتدهور العملة الوطنية. لكن ما من شيء تمّ حتى اللحظة، بل على العكس تضاعف الاستغلال، في ظل انشغال السياسيين بتفصيل رئيس للجمهورية يتناسب ومشاريعهم، ويحقق غاياتهم نحو مزيد من النصب واستشراء الفساد، لإحكام السيطرة على جميع منافذ البلد.
هذا التشرذم السياسي فاقم من الازمة الاقتصادية الراهنة، وحوّل جميع الأسواق التجارية والصناعية والغذائية الى سوق سوداء “فلتانة”، والاستغلال بات مضاعفا، والمتاجرة صارت على “عينك يا مسؤول”، اذ لا شيء يردع هؤلاء ويمنعهم من الانتفاع دون وجه حق او قانون او مراقب، والربح بالأساليب الملتوية مُشرَّع ومشروع، لأنه لا ثقة بأن الدولة قادرة على مجازاة مخالف او فاسد، ويبقى الكلام كلاما الى حين اثبات العكس.
الغاية تبرر الوسيلة
بالتوازي، ان عملية ثبات سعر صرف الدولار في السوق الموازية لم يتلاءم مع التجار والشركات والمؤسسات التجارية، فعمدوا الى رفع الأسعار وزادوا الطين بلة على كاهل اللبنانيين من خلال أساليب متنوعة منها: قيام هؤلاء باحتساب أسعار بضائعهم على أساس سعر دولار اعلى من سعر الصرف في السوق الموازية، بنسب وصلت الى 40 و60 بالمئة، حتى ان بعض الصناعات المحلية باتت تسعر بالدولار وموادها الأولية بمعظمها غير مستوردة. على سبيل المثال، بعض معاجن نزع الشعر المخصصة للعناية الشخصية وموادها الأولية متوافرة في لبنان ومصنوعة من ماء وسكر وحامض الستريك، وكتب عليها (صنع في لبنان)، سعر القطعة قبل الازمة كان 1000 ل.ل. واليوم تباع بـ 1 دولار او ما يعادله بحسب سعر الصرف في السوق السوداء.
الاقتصاد بات مُدولراً برمته!
على خطٍ موازِ، ان اعتماد منهجية التسعير بالدولار، انتقل من “السوبرماركات” الى الاكشاك التجارية ومحلات بيع الألبسة والاحذية والقطنيات التي أغلبيتها صناعة محلية، “اللوندراي” او المصبغة (تنظيف الثياب) الأسعار تبدأ من 3.5 دولار وتصل حتى 12 دولاراً، محلات نفخ الدواليب، بيع المياه وصهاريج تعبئة المياه الخ، والاهم من كل ذلك الصيدليات التي تستغبي نقابة الصيادلة ببيعهم عقاقير اساسية على سعر صرف مغاير، الى جانب ادوية قديمة اشتروها على دولار الـ 1500 وخزنوها في شقق سكنية عوضا عن المستودعات، حتى لا يُفضح امرهم، وهو ما قد يعرضها اما لانتهاء صلاحيتها او عدم حفظها ضمن الشروط الصحية المطلوبة في التخزين.
هذه الامور تتناقض وهدف وزير الاقتصاد امين سلام من الدولرة الذي اعتبر: “ان هذه الخطوة من شأنها منع استغلال المواطن وتمكينه من المقارنة بين “سوبرماركت” وآخر بشكل يعزز المنافسة، كما ستمنع اجبار المستهلك على الدفع بالدولار، وتترك له خيار الدفع اما بالليرة او بالفرش على أساس السعر المثبت على مدخل المحلات”.
ولكن كيف يمكن ان يحدث كل ذلك، في ظل غياب الرقابة والمراقبين من جهة مؤسسات الدولة لمعاينة كافة المناطق اللبنانية، ولتغطية كل “السوبرماركات” والمحلات التجارية؟ بالمحصّلة، فإنّ هذا الامر من شأنه ان يعمّق الفساد والتسيّب والغش والمحسوبيات في هذا المجال، وفي كافة القطاعات الحياتية.
اللبنانيون بين “شاقوفين” احلاهما مرّ!
وبحسب البنك الدولي، فإن لبنان قد شهد في عام 2022 أحد اعلى معدلات التضخم في العالم، بنسبة فاقت 330 بالمئة.
بالموازاة، لا يقتصر الامر عند حدود ترك الحرية للبنانيين بدفع قيمة مشترياتهم بالدولار او العملة الوطنية، لتذليل العقبات امامهم. فمن ناحية يسهل الامر على الذين يتقاضون رواتبهم بالدولار، وهذا سيقلل من مشكلة التراجع الدراماتيكي في سعر الليرة. بالمقابل، لن يعف هؤلاء من ارتفاع الأسعار بالدولار، خاصة بعد رفع الدولار الجمركي الى 86 ألفا، كما ان استقرار الدولار لم يضع حدا لزيادة الأسعار، ما يعني ان خطة الحكومة فاشلة وغايتها معروفة وواضحة، وتصب في إطار مصلحة فئة معينة تسعى الى تحصيل المزيد من الكسب والربح غير المحدود او مشروط بقانون او بضمير.
وبناء على كل ما تقدم، فإن قرار الدولرة لم يسهم في تحسين المستوى المعيشي، والدليل على ذلك ان أكثر من 70% من اللبنانيين تحت مستوى خط الفقر.
انخفض الدولار فارتفعت الأسعار
وفي جولة ميدانية قامت بها “الديار” شملت الدكاكين وبعض “السوبرماركات”، ومتاجر بيع الالبسة والاحذية، “البالات” والملبوسات المستعملة، ومتاجر بيع الـ 1 دولار، كشفت ان الأسعار متباينة بين محل وآخر.
وفي هذا الإطار، تعتمد احدى “السوبرماركت” في منطقة فرن الشباك سعر دولار أعلى بحوالى 2000 ليرة لبنانية. ففي قسم الحبوب مثلا تم تسعير العدس بـ 180 الفا، بعد ان كان بحدود 1,30 دولار. بالإشارة الى ان الأسعار تتفاوت ما بين نوعية وأخرى. كما ان “مرطبان النسكافية” 200 غ، فبعدما ان كان سعره بحدود الـ 4 دولار، أصبح بـ 780000 الفاً، اما المعلبات فجميعها خضعت لزيادة تتراوح ما بين الـ 20 و30 بالمئة خاصة التونة والفطر واللحوم المعلبة. اما في قسم الحليب المجفف والسائل وجميعه مستورد، فالأسعار بالعملة الوطنية.
وفي هذا السياق، شكت نتالي لـ “الديار” معاناتها اليومية، فقالت: “في كل يوم امر لأشتري بعض الأغراض، أجد ان الأسعار تبدلت واغلبية الأصناف كانت مسعرة بالفرش، فأضحت بعد استقرار الدولار بالليرة، ومع الأسف قرار دولرة السلع والمواد الغذائية على وجه الخصوص كونها تهدد الامن الغذائي للمواطنين، عزّز من فرص الغش بشكل كبير”.
“البالات” والثياب المستعملة بالدولار
واعتبرت السيدة ماري ناصيف ان الأمور متجهة نحو الأسوأ، وقالت لـ “الديار” كنت اقصد محلات بيع الألبسة المستعملة و”البالات” لأوفر قليلا في ثمنها، الا ان هذا القطاع أيضا خضع للدولرة. أضف اليه محلات بيع الملبوسات “بالكيلو”، التي كانت قبل أشهر تعتمد العملة الوطنية في تعاملاتها”. تابعت “اليوم تبدلت استراتيجيتها وأضحت أسعارها بالفرش، وأغلى من تلك الجديدة والمستوردة من تركيا وبعض الدول الأوروبية. فعلى سبيل المثال “مشاية” في “البالة” سعرها 15 دولاراَ، بينما متجر آخر يبيعها جديدة بـ 10 دولار”.
وفي هذا الإطار، برّر مدير أحد فروع البالات لـ “الديار”، “انهم اتخذوا خطوة البيع بالدولار نتيجة ارتفاع سعر الدولار الجمركي، كما ان تهافت الناس على الشراء ضاعف من الثقة لدى أصحابها لاتخاذ هكذا قرار”.
والجدير ذكره، ان أصحاب هذه “البالات” كان لديهم منذ أشهر تصميم على اعتماد الليرة مع زبائنهم، اليوم تبدّل هذا الاصرار وانتقلوا للبيع على القطعة وبالدولار.
في الخلاصة، يتبين من كل ما تم عرضه، ان الليرة متجّهة نحو مزيد من التدهور، والاقتصاد اللبناني يمشي سريعا نحو الدولرة الشاملة وبات قاب قوسين او أدنى بقليل. ويبقى المواطن رهينة وضحية هذا الانهيار، ووحده من يدفع الثمن غاليا.