الجمعة, نوفمبر 22
Banner

في عزّ الحشرة: سلامة يقايض المصارف بقراراته

علي نور الدين – المدن

رغم انشغال حاكم مصرف لبنان بتداعيات مذكرة التوقيف الفرنسيّة ونشرة الإنتربول الدوليّة، امتلك الرجل الوقت الكافي للاهتمام بالمقايضات التي اعتاد على القيام بها، مع المصارف التجاريّة. في آخر اجتماعات المجلس المركزي، يوم الأربعاء الماضي، أمضى سلامة نحو ساعتين في مناقشة ملفين: رخص المصارف الإلكترونيّة الجديدة، وآليّات تطبيق نظام التحويلات الجديد بين المصارف اللبنانيّة، الخاص بالأموال الجديدة (الفريش). مع الإشارة إلى أنّ تعميم نظام التحويلات الجديد يفترض أن يدخل حيّز التنفيذ في مطلع الشهر المقبل، أي بعد نحو أسبوع ونصف الأسبوع، بينما كان من المفترض أن تكون المصارف قد فتحت الحسابات الوسيطة الخاصّة بهذا النظام، لدى مصرف لبنان، في 10 أيّار الفائت.

على ما يبدو، اختار سلامة خلال الأسابيع الماضية تحريك الملفّين معًا، في محاولة لإجراء مقايضة مبطّنة مع جمعيّة المصارف. فمنح التراخيص المصرفيّة الجديدة من جهة، يثير حساسيّة المصارف القديمة، التي تدرك أنّ المصارف الجديدة ستأكل من دورها وحضورها، بل وقد تحيلها إلى التقاعد التام. لكنّ خلق نظام جديد لتحويل الأموال الفريش بين المصارف اللبنانيّة، عبر مصرف لبنان، ومن دون المرور بالمصارف الأميركيّة، سينشّط العمليّات الماليّة بين المصارف القديمة، بمجرّد خلق نظام دفع منخفض الكلفة للدولارات الطازجة، وبمنأى عن نظام الدفع المتصل بحسابات “اللولار”.

رخص المصارف الجديدة

حسب أجواء اجتماع المجلس المركزي، تمّ التداول بإعطاء موافقات مبدئيّة لأربع طلبات تتعلّق بنظام المصارف الجديدة، من أصل عشرات الطلبات الواردة للحاكميّة المصرف المركزي. ومن المفترض أن تكون هذه الموافقات مشروطة، بمعنى الطلب من أصحابها القيام بمجموعة من الإجراءات التي تسبق منح التراخيص النهائيّة. كما لا تلزم هذه الموافقات المبدئيّة حاكميّة المصرف المركزي بأي تواريخ محددة، بخصوص تاريخ إطلاق هذه المصارف. بمعنى آخر، لا تعني هذه الموافقات المبدئيّة سوى إعطاء الإشارة الخضراء لاستكمال التحضيرات الأوليّة من قبل أصحابها، من دون أن تعني اقتراب لحظة إطلاق هذه المصارف فعلًا.

وتشير المصادر إلى أنّ هذه الرخص ستكون محصورة بما بات يُعرف الآن بالمصارف الإلكترونيّة، أي تلك التي تقدّم خدمات إرسال وتلقي التحويلات، والدفع عبر الإنترنت، وإصدار بطاقات الدفع المسبق. إلا أنّ أياً من هذه المصارف لن يملك صلاحيّة فتح الفروع المصرفيّة التقليديّة، التي تقدّم خدمات السحب والإيداع النقدي والإقراض. وبهذا المعنى، سيكون على عملاء هذه المصارف تغذية حسابات عبر تحويلات من الخارج، أو من إيداعات تتم في حسابات “فريش” في المصارف القديمة.

وحسب المصادر، ولتفادي تسويق الرخص الجديدة كنظام مصرفي بديل للمصارف القديمة، سيتم طرحها على أنّها “مؤسسات ماليّة رقميّة”، ستشترك بمنصّة خاصّة للتداولات النقديّة الإلكترونيّة، وهو ما سيبرّر ترخيص هذه المصارف كنظام جديد منفصل، وبأهداف “عصريّة”. ولتبرير إطلاق هذه المنصّة، سيتم ربط الخطوة بمحاولة الحد من حجم الاقتصاد النقدي، الذي يهيمن اليوم على نحو نصف الأنشطة الماليّة في السوق اللبنانيّة.

المقايضة لم تمر حتّى اللحظة

في كل الحالات، لا يبدو أنّ المقايضة المضمرة التي حاول تمريرها حاكم مصرف لبنان قد نفعت. فرغم التمريرة التي أعطاها سلامة للمصارف، بإصدار تعميم النظام الجديد لتحويلات الأموال الفريش، لم تتلقّف المصارف –في المقابل- فكرة إعطاء رخص لمصارف إلكترونيّة جديدة.

بل وعلى العكس تمامًا، عملت المصارف طوال الأسابيع الماضية على شيطنة فكرة المصارف الجديدة، عبر الحملات الإعلاميّة وتصريحات “خبراء المصرف”، التي حذّرت من تداعياتها على المودعين، باعتبار أن الترخيص لمصارف جديدة ستعني تطبيع أزمة المصارف القديمة وتحطّيها. مع الإشارة إلى أنّ هذه الحملات لم تأخذ بالاعتبار محدوديّة الخدمات التي ستقدّمها المصارف الإلكترونيّة التي سيرخّصها سلامة، والتي لا تغطّي جميع الخدمات التي يفترض أن يقدمها أي نظام مصرفي طبيعي.

ولم تخفِ جمعيّة المصارف نفسها انخراطها في هذه الحملة، إذ تصدّر المشهد أمين عام الجمعيّة فادي خلف شخصيًا، الذي حذّر في مقال خاص من “تسرّب المعلومات عن إعطاء أربع رخص لمصارف جديدة”، وهو ما يعني بحسب خلف “خلق قطاع مصرفي جديد والقضاء على القطاع المصرفي الحالي مع ودائعه”. وفي نبرة أقرب للتهديد، حذّر خلف من أنّ المصارف لن تتمكّن من “المشاركة في معالجة الأزمة في حال لم تتأمّن لها المقومات اللازمة لاستمرارية عملها”.

نظام التحويلات “الفريش” عبر مصرف لبنان

في مطلع الشهر المقبل، من المفترض أن تبدأ المصارف (القديمة) بالعمل وفقًا لنظام التحويلات الجديد بينها، للأموال الفريش بالدولار والليرة، وعبر مصرف لبنان. وبهذا الشكل، سيكون للأموال الفريش مقاصّة تمر مباشرة عبر المصرف المركزي، بين المصارف اللبنانيّة، تمامًا كما هو الحال بالنسبة لشيكات “اللولار”. ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ المصارف امتلكت أساسًا منظومة خاصّة لحسابات “الدولار الفريش”، لكن التحويلات بين المصارف بالنسبة لهذه الحسابات كانت تمرّ بالمصارف المراسلة في الخارج، بدل أن تمرّ بمصرف لبنان كما هو الحال بالنسبة إلى تحويلات “اللولار”.

وبهذا المعنى، لا تمكن رمزيّة هذا التطوّر في استحداث نظام موازي للحسابات الجديدة، كما أشار البعض، إذ أنّ هذا النظام موجود بالفعل. بل تكمن رمزيّة هذا الإجراء في استحداث مصرف لبنان مقاصّات مختلفة للدولارات الجديدة والقديمة، والليرات الجديدة والقديمة، وهو ما يطبّع فكرة التمييز ما بين ودائع ما قبل وما بعد 17 تشرين الأوّل 2019، وهذه المرّة بتعاميم صريحة من المصرف المركزي.

لكن وبعكس حساسيّة المصارف من فكرة منح تراخيص مصرفيّة جديدة، لم تبدِ المصارف الكثير من الحساسيّة تجاه استحداث مقاصّات جديدة للأموال الفريش، رغم أنّها تطبّع فعليًا فكرة التغاضي عن معالجة أزمة الودائع القديمة. بل وعلى العكس تمامًا، بدا أنّ المصارف مهتمّة بإنجاح هذه الخطوة، من خلال فتح الحسابات الوسيطة بسرعة لدى المصرف المركزي، وإنجاز التنظيمات الإداريّة الداخليّة المطلوبة للبدء بتطبيق الفكرة ابتداءً من أوّل شهر حزيران.

في جميع الحالات، تكمن الغرابة اليوم في انكباب حاكم المصرف المركزي على إجراء كل هذه المقايضات مع المصارف، رغم أنّ جميع المؤشّرات تدل على حراجة موقفه في هذه المرحلة، بوجود مذكرّة التوقيف الفرنسيّة ونشرة الإنتربول الحمراء. وقد تكون كل هذه الخطوات إحدى أساليب الحاكم، للإيحاء بأن كل هذه الضغوط القضائيّة لن تؤثّر على استمراريّة عمل في موقعه، ولن تحول دون بقائه في الحاكميّة حتّى نهاية ولايته في شهر تمّوز.

Leave A Reply