حسن الدر-
كان يوماً أقرب إلى الحلم، فالحديث عن التّحرير كان ضرباً من الجنون تماماً كالحديث اليوم عن تحرير فلسطين، لكنّ الحلم تحقّق.
هو يوم حصاد الأجساد الطّاهرة الّتي زرعت في الأرض المباركة فأنبتت نصراً وعزًّا وكرامة.
هو يوم المحرومين والمستضعفين الّذين أعزّهم الله وأغناهم وجعلهم رقماً صعباً في صنع المعادلات بعدما كانوا أرقاماً مبعثرة في حروب عبثيّة ذات اليمين وذات اليسار.
ولكن ثمّة سؤال لا يبارحنا: هل نستحقّ ما تحقّق؟!
ذكر أمين عام حزب الله السّيّد حسن نصرالله في أحد خطاباته بأنّ الرّئيس نبيه برّي قال له في اللّقاء الّذي جمعهما عقب التّحرير بأنّ هذا الحدث ثقيل علينا وسيعملون على تدفيعنا ثمنه غالياً لأنّ بعض الأنظمة لا تقوى على تحمّل انتصارنا قبالة انبطاحها وهزائمها أمام «إسرائيل» على مدى عقود خلت.
وهكذا كان، فشريط الأحداث منذ ما بعد ٢٥ أيّار ٢٠٠٠ حتّى اليوم يرسم صورة واضحة لنبوءة برّي الّذي خبر تجربة مماثلة إثر تحرير العام ١٩٨٥ عندما انسحبت إسرائيل تحت ضربات المقاومة من معظم المدن اللّبنانيّة واحتفظت بالشّريط الحدودي.
عجزت إسرائيل وحلفاؤها عن المواجهة فافتعلوا حروباً وأحداثاً منسّقة لتشويه صورة حركة أمل ورئيسها باعتبارها العمود الفقري للمقاومة في وقتها.
عام ٢٠٠٠ خطب الأمين العام لحزب الله السّيّد حسن نصرالله في مدينة بنت جبيل وأعلن بتواضع المنتصر بأنّ المقاومة تلتزم ما تقرّره الدّولة اللّبنانيّة في ما خصّ مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وقرية الغجر ثمّ أهدى الإنتصار إلى كلّ اللّبنانيين.
فهل قَبِل كلّ اللّبنانيين هديّة السّيّد؟!
اليوم يحتفل بعض اللّبنانيين بعيد المقاومة والتّحرير بعد ٢٣ عاماً على الذّكرى، والبعض الآخر بتوعّد المحتفلين بالويل والثّبور وعظائم الأمور، وبناء على هذا الانقسام الخطير تدور داخل بيئة المقاومة الكثير من النّقاشات حول ما آلت إليه الأمور خلال ثلاثة وعشرين عاماً، وأكثر الأسئلة إلحاحاً اليوم: بماذا أخطأت المقاومة في حقّ لبنان واللّبنانيين حتّى تعامل بهذا الجفاء والعداء، وبكثير من الصّراحة يسأل أهل المقاومة: ما سرّ هذا الحقد على «الشّيعة» عند البعض، فالطّائفة لم تخرج يوماً عن الخطّ الوطنيّ أو العروبيّ، بل دفعت أكثر من غيرها أثمان القضايا العربيّة، وعن طيب خاطر، فهل يوجد على سطح هذه الأرض من يدافع عن فلسطين وعروبتها وأهلها أكثر من شيعة لبنان؟! وهل تحمّلت طائفة في لبنان ما تحمّله أهل الجنوب والبقاع في سيادة لبنان وحرّيّته؟! ألا يكفي من التّضحيات تغييب إمام بحجم موسى الصّدر وقتل سيّد بحجم عبّاس الموسوي وغيرهما من القادة الأفذاذ؟!
هذه الأسئلة الإنكاريّة منشأها العتب والدّهشة من حجم الحرب النّفسيّة والإعلاميّة والسّياسيّة الّتي يتعرض لها أبناء الإنجاز والانتصار، والمؤلم هو ظلم ذوي القربى، فلا عتب على عدوّ أبداً..
والّذين هم على تماس مع أبناء المقاومة وأهلها يلمسون عمق الانتماء للوطن والاستعداد للتّضحية من أجله ويعزّ عليهم الحملات الّتي تشّن ليل نهار لتشويه صورة المقاومة وقادتها وطمس تضحياتها وانتصاراتها.
الإجابة عن الأسئلة الآنفة بديهيّة ومعلّبة جاهزة: «لبنان لا يحتمل طائفة قائدة» فهل طرح قادة الثّنائي أنفسهم ليكونوا قادة لبنان والمسيطرين على قراره؟
يتّهم الثّنائي الشّيعي بممارسة «الشّيعيّة السّياسيّة» واختطاف البلد لصالح «المشروع الإيراني» وهم يعلمون بأنّ «الشّيعة» هم الأضعف في الدّولة العميقة من حيث المراكز والمناصب، رغم فائض القوّة العسكري في مواجهة العدو الإسرائيلي والتّكفيريين.
وعند هذه النّقطة يحمّل بعض مثقّفي «الشّيعة» ثنائي أمل وحزب الله المسؤوليّة عن عدم السّعي لتعديل دستوريّ يعطي الشّيعة حقّهم بعدالة مع غيرهم من الطّوائف الكبرى، فهل يُعقل بأن «يستجدي» الثّنائي وزارة المال في الحكومة الأولى بعد التّحرير ليكون لهم حضور رسميّ في توقيع ثالث؟!
يرى هؤلاء المثقّفون بأنّ برّي ونصرالله يضعان المصلحة الوطنيّة فوق المصالح الطّائفيّة وهذه فضيلة، ولكنّ حكمة المتنبّي تحضر في كلّ نقاش من هذا القبيل:
ووضعُ الندى في موضع السيف بالعلا
مُضرٌّ كوضع السيف في موضع الندى
أي أنّ الفضائل تعطى لمن يستحقّها ويقدّرها، أمّا أن تُقتل لتحمي نفسك ووطنك ويعاديك بعض أهلك فهنا يحضر في البال المشغول أيضاً:
«يرضى القتيل وليس يرضى القاتل»
وفيما تضجّ الشّاشات بالبكّائين على أطلال قصور هدّمها قادتهم بسوء خياراتهم وخطأ قراءاتهم، ويتحدّثون عن مخاوفهم وهواجسهم من مقاومة عفَت عن العملاء الّذي قتلوا مجاهديها وأهلها، فهل فكّر هؤلاء يوماً بهواجس المقاومة وبيئتها؟!
هل فكّروا بليالي الأرق ونهارات القلق في ظلّ احتلال مجرم كإسرائيل؟! هل درس أطفال هؤلاء في مدارس مطلّة على مواقع الاحتلال وعملائه واختبأوا تحت المقاعد الدّراسيّة لتفادي شظايا القذائف والرّصاص؟
هؤلاء الّذين تعلّموا في تلك الظّروف القاتلة هم اليوم يحتلّون المراتب الأولى في الجامعات ومجالات عملهم، ألا يستحقّون التّكريم والتّقدير بدل التّشكيك والتّنكيل؟!
هذه السّطور ليست لتمنين أحد، فالمقاومة قامت بواجبها الوطني ولا تطلب من أحد جزاء ولا شكورا، كلّ ما تطلبه هو العدالة والمساواة في المواطنة.
يوم كان الشّيعة محرومون من وطنهم صدح الإمام موسى الصّدر في وجه القادة السّياسيين: اعدلوا قبل أن تبحثوا على وطنكم في مقابر التّاريخ، واليوم بعد تراكم التّضحيات والانتصارات والانجازات، وعلى أبواب الاستحقاق الرّئاسي وفرصة ملء الشّغور وإنهاء الفراغ يصرخ الرئي