علي نور الدين – المدن
مذكرتا التوقيف الفرنسيّة والألمانيّة، والنشرة الحمراء الصادرة عن الإنتربول، ليست سوى أوّل الغيث في ملف حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، الجنائي. فخلال الأيام المقبلة، سيكون الحاكم على موعد مع نشرة حمراء جديدة من الإنتربول، على خلفيّة مذكرة التوقيف الألمانيّة.
وبعد ذلك، سينتظر الحاكم مذكّرة التوقيف التي ستصدر عن محاكم لوكسمبورغ، صاحبة الجزء الأكثر دسامة وإثارة في ملفّه، على أن يلي ذلك نشرة إنتربول حمراء جديدة بناءً على هذه المذكّرة. ومن بعدها، ستكر سبحة مذكرات التوقيف والنشرات الحمراء، من قبل النيابات العامّة الأجنبيّة الأخرى التي تحقّق في ملف الحاكم. وفي نهاية ولايته، سيكون حاكم مصرفنا المركزي مطلوبًا دوليًا من الطراز الرفيع.
العين على لوكسمبروغ
حظيت التحقيقات الفرنسيّة بحصّة الأسد، في التغطية الإعلاميّة المرتبطة بملف رياض سلامة الجنائي، ربما بسبب المتابعة الوثيقة للملف من قبل المنظمات الحقوقيّة، التي قدّمت الإخبارات خلال العام 2021.
لكنّ الجزء الأكثر إثارة من القضيّة، سيكون في لوكسمبروغ تحديدًا، حيث عملت السلطات القضائيّة على مواكبة التحقيقات التي تجريها النيابات العامّة الأوروبيّة الأخرى، لتقصّي عمليّات تبييض الأموال التي جرت لديها. مع الإشارة إلى أنّ محققي لوكمسبورغ رافقوا المحققين الألمان والفرنسيين، في جلسات التحقيق السابقة التي جرت في قصر عدل بيروت، كما تبادلوا المعطيات معهم من خلال وكالة “يوروجيست”، المخصصة للتعاون القضائي في المسائل الجنائيّة في أوروبا.
عمليًا، لطالما تم اعتبار لوكمسبورغ جنّة ضريبيّة مفضّلة، للراغبين بإخفاء الثروات غير المشروعة، أو القيام بعمليّات ماليّة بقصد التهرّب الضريبي. وهذا تحديدًا ما دفع حاكم مصرف لبنان والحلقة المحيطة به لتمرير الجزء الأكبر من العمليّات المشبوهة التي جرت، من خلال الشركات الاستثماريّة المسجّلة في لوكمسبورغ.
فعلى سبيل المثال، وبحلول العام 2018، قُيّمت أصول الشركات الاستثماريّة التي يتحكّم بها سلامة في لوكسمبروغ بحدود 94 مليون دولار أميركي، وهو ما يشير إلى دسامة المعطيات التي ستنكشف في التحقيقات الجارية هناك الآن.
ومن سوء حظ سلامة، غيّرت لوكمسبورغ خلال العام 2019 قانون الشركات الخاص بها، للامتثال لمعايير الاتحاد الأوروبي، التي تفرض الكشف عن أصحاب الحق الاقتصادي، من الشركات الواجهة المسجّلة في أوروبا. وهذا تحديدًا ما كشف امتلاك حاكم مصرف لبنان الحق الاقتصادي الأخير في العديد من الشركات، التي كانت مسجّلة بإسم إبنه وسائر الحلقة التي عاونته في عمليّات تبييض الأموال. مع الإشارة إلى تعقّد شبكة العمليّات التي جرت بين الشركات المسجّلة في لوكسبورغ، ومرور هذه العمليّات بأسواق ماليّة وعقاريّة أخرى، هو ما أخّر تحقيقات لوكمسبورغ حتّى هذه اللحظة، مقارنة بتلك التي تجري في فرنسا وألمانيا.
في كل الحالات، وحسب معطيات التحقيقات الموجودة في ألمانيا وفرنسا ولوكسبورغ وبلجيكا والمملكة المتحدة، يتبيّن أن نحو 85 مليون دولار أميركي من عمولات شركة فوري، التي تم تبييضها، مرّت بحسابات مصرفيّة مملوكة من قبل الشركات المسجّلة في لوكسمبورغ، قبل أن يتم توزيعها على أسواق العقارات الأوروبيّة الأخرى. وهذا ما يعطي الادعاء المرتقب في لوكسمبروغ، مع معطيات التحقيق هناك، أهميّة خاصّة تفوق كل التحقيقات الأوروبيّة الأخرى. ولذلك، تشير المصادر إلى أنّ العين يجب أن تكون اليوم على محاكم لوكسبورغ، وما سيكشفه الادعاء هناك.
وتشمل قائمة الحسابات المصرفيّة التي تحقق بها محاكم لوكسبورغ حاليًا، تلك المسجّلة بإسم شركات: Stockwell Invest وR209 Invest وFulwood وBET SA، وهي جميعها شركات واجهة سجّلها سلامة بأسماء المقرّبين منه بهدف إخفاء ملكيّته للأموال التي تم تبييضها من خلالها. كما تشمل القائمة حساباً شخصياً بإسم حاكم مصرف لبنان نفسه، في مصرفBGL BNP Paribas.
ومن المرتقب أن يستند الادعاء المرتقب في لوكسمبروغ إلى عمليّات هذه الحسابات بالتحديد، إذ أنّ جميع عمليّات تبييض الأموال التي حصلت في ألمانيا وفرنسا، عبر شراء العقارات هناك، تم تمويلها من السيولة التي مرّت بهذه الحسابات بالتحديد.
توليفة حماية الحاكم المحليّة
في المقابل، ومع تصاعد الضغط الخارجي على حاكم مصرف لبنان، تستمر محاولات “نسج” المظلّة الحمائيّة المحليّة، التي يستفيد منها الرجل. فكما كان متوقّعًا، انتهت جلسة استجواب الحاكم لدى محكمة التمييز يوم أمس الأربعاء، والتي جرت على خلفيّة تلقي مذكرة الأنتربول، بقرار مصادرة جوازي سفر رياض سلامة، مقابل عدم توقيفه على ذمّة التحقيقات المحليّة (رغم وجود بلاغ بحث وتحرّي صادر عن النيابة العامّة الاستئنافيّة بحق رياض سلامة). وهذه الصيغة، ستسمح بتبرير عدم سفر الحاكم لتسليم نفسه أو حضور أي تحقيق في الخارج، مقابل استمراره في ممارسة مهامه كحاكم للمصرف المركزي.
أمّا جلسة مجلس الوزراء يوم الجمعة، فلن يكون على جدول أعمالها أي بند متعلّق بحاكم مصرف لبنان، أو بمذكرات التوقيف والنشرة الحمراء الصادرة بحقّه. وبهذا الشكل، تغاضى رئيس الحكومة عن مذكرة نائبه سعادة الشامي، التي حذّرت مجلس الوزراء من تبعات بقاء رياض سلامة في منصبه، على مستوى علاقة لبنان ومصارفه مع النظام المالي العالمي، ومسار محادثات لبنان مع المؤسسات الماليّة الدوليّة. وبهذا الشكل، تتجه المنظومة السياسيّة –مجددًا- نحو تحميل عموم اللبنانيين كلفة الغطاء الذي تمنحه للحاكم، من خلال ضمان بقائه في منصبه لغاية شهر تموز المقبل.
كل هذه الصورة، تعيد التذكير بالدور الذي يلعبه حاكم مصرف لبنان، بوصفه الصندوق الأسود الذي يحتوي على أسرار هذه الطبقة السياسيّة، وبصفته الرجل الذي هندس التركيبة النقديّة والماليّة، التي استفادت منها السلطات المتعاقبة. هذا الدور، هو ما يدفع كل هؤلاء لحمايته، وللانصياع لرغبته بالبقاء في منصبه، حتّى نهاية ولايته الراهنة، كي لا ينفجر صندوق الأسرار يومًا ما.