نبيل مملوك ـ
لا يمكن التفريط أبدًا بشعريّة الترجمة أو بإلغائها أو باعتبارها عمليّة نقل ألسنيّة لغويّة من نظام لغوي إلى آخر، خاصّة في #الشعر حيث تختبئ بين الأسطر عناصر العمل الأدبيّ جميعها، وهذا ما يجعلنا في أحيان كثيرة نرتبك إزاء ترجمات قلّلت من حدّة المعنى لدى الشاعر لدواعٍ لغويّة، تمامًا كما يفعل شاعر القصيدة الموزونة حين يخفي الفنيّة ويضع قصديّته في خانة المباشرة، بغية الحفاظ على الوزن والقافية، والحديث عن تحقّق شعريّة الترجمة مرتبط وفقًا لتحسين الخطيب: “بالشاعر المترجم أو (المترجم)” الذي يتعامل مع الشعر بعيدًا عن تعريفه شكلاً ومعيارًا، وهذا ما دفع المترجم المغربيّ #سعيد بن الهاني أن يقدّم في كتابه “حمّالو الندوب” الصادر عن دار خطوط وظلال (ط2021.1) إلى اختيار مختلف السياقات الشعريّة الغربيّة والأشكال الشعريّة المتباينة من القصائد العموديّة الى الشذرات الى القصيدة بالنثر. لكنّها في آن واحد اقتربت كلّها من منبع واحد هو العبث المتبوع بالشكّ، أو الركض خلف القلق والهاجس ركنا الحداثة الشعريّة ورافعتا العقل على حساب العاطفة.
شعراء خارج الضوء ورؤية المترجم
عمد بن الهاني إلى انتخاب نصوص شعريّة من مختلف أصقاع العالم من المجر وفرنسا واليابان وغيرها من الدول، لكنّ اللافت أنّه استهلّ مختاراته بقصيدة عبثيّة انسحبت على مجمل المختارات فيما بعد: “اليوم لم أعمل شيئًا/ لكن في المقابل أنجزت في داخلي أشياء كثيرة…”(ص.15)، وهذا السطر الشعري للشاعر روبيرتو خواروث يظهر أوّلاً الإيقاع الداخليّ المتمثّل بالمقابلة: “…لم أعمل شيئًا /…أنجزتُ…أشياء كثيرة” متبوعاً بدهشة: “طيور فاقدة الوجود وجدت عشّها” هذه العبثيّة والدوران في حلقة اللامشهد كانت بمثابة انطلاقة أو توطئة لاصطفاء المترجم تواترت في أكثر من موضع ولدى أكثر من شاعر: “وقد أصبح الماء المثلّج للقبور/ لكن بعيدًا أكثر، من يعرف ما هو أبعد” (ص.19) “التقيتُ المرأة ومرجلها/ لن أنعم أبدًا بالسكينة في الدرج” (ص.31).
وأنّ هذا التواتر للموضوعيّة الأكثر رواجًا في الغرب “العبث” يضعنا أمام فرضيات عدّة تسوّغ اختيارات المترجم منها: الموضوعيّة محاولة لتقديم الشعر في مراحله العصريّة، المتحرّر من الموضوع ومن التأويل، أمّا الذاتيّة، والتي يمكننا طرحها على شكل تساؤل، فهل هي محاولة شعريّة من المترجم لتغييب الغنائيّة والرمزيّة كمذهبَين كلاسيكيَّين، والإضاءة على العبثيّة، المذهب القديم الجديد؟
قد يؤخذ على المترجم اعتماده مختارات شعريّة تدور في ذات الفلك، ولكن في المقلب الآخر يُظهر هذا الخيار مدى قدرته على أن يكون قارئًا أوّلاً يحتكّ في النصوص الشعريّة ليصنع دلالته للشعر ورؤيته لها، خاصّة أنّ معظم الشعراء المقدّمة مختاراتهم هم خارج الضوء، إلى جانب قلّة من شعراء الغرب الأعلام مثل بول فاليري وفرناندو بيسوا وهنري ميشو وأندريه شديد…
اللغة والحرص على خصائص القصيدة
لم تكن غاية سعيد بن الهاني عملية النقل من لغة وسيطة الى لغة أخرى بقدر ما كانت محاولة مضمرة للتذكير أو التعريف بخصائص الشعر الحديث الذي تأثر به العرب منذ ستينيات القرن الماضي، عبر مجلّة شعر إلى يومنا هذا، فبرز بذلك الحرص على تقديم أسلوبيّ للقصائد، ونستطيع ملاحظة ذلك من خلال ثلاثة مؤشّرات على الأقلّ.
أوّلاً: التواتر
يعدّ التواتر أو التكرار أداة من الأدوات الأسلوبيّة الكاشفة عن الإيقاع الداخليّ والمحافظة “بمحدودية” توظيفها على جماليّة النّصّ، ونلاحظ أنّ المترجم أضاء على خاصيّة التواتر لدى شعراء لا تجمعهم جنسيّة أو معرفة وقد تجمع بالضرورة الحداثة بينهم: “المأوى يعجّ بالأصوات/ المأوى يعجّ بالأصوات” (ص.22)، تكرار الألفاظ: “مساءات! مساءات! كم من مساءات من أجل صباح واحد” (ص.24)، امرأة تصعد الدرج… امرأة تصعد الدرج (ص.31).
ثانيًا: التوازي
وبرز التوازي من خلال نوعه النسقيّ، حيث اختار المترجم قصائد تحتوي على تراكيب متناسقة العبارات والكلمات عددًا : “وهو يرتجف، لا يملك في جعبته شيئًا/ وبعد ذلك، منحتكم سيّدة حفّاضة”… “لي خفقة البحار/ لي تكدّس الجبال” (ص.53).
ثالثًا: الطباق/المقابلة
تلعب الثنائيات الضديّة في هذه المختارات دورًا أساسيًّا في ترسيخ المعنى والبيت في ذاكرة المتلقّي، ممّا يولّد عمليّة ايجابيّة لخلق الصورة الموازية أو حفظ النتاج وترديده سواء كمتعلّق نصيّ بآخر أو كنتاج في حدّ ذاته “كانت لي القيود /كان لي الخلاص” (ص.54)، “يرتفع، ينطلق ثمّ يسقط مرّة ثانيةً” (ص.61).
ليست هذه المؤشرات وحدها التي ميّزت المختارات أو أصقلت مجهود المترجم، فشذرات فاليري وبيسوا وغيرهما أيضًا أعطت للمشروع المصغّر نبضًا موجزًا يؤكّد أنّ الترجمة لا تقتصر على الذوق والدهشة والإعجاب أو ما يعرف قديمًا بالانطباعيّة، بل على التنقيب المعياريّ وتفكيك مفاصل النصوص لتحمل بتناسقها الصوتيّ والشعريّ نبضًا واحدًا ونفسًا أحاديًّا يمثّل المترجم، ويعكس رؤيته التي قد تتجاوز المقدّمة ورغبته الواعية.
يفتح هذا الكتاب أمام المتلقّي للترجمات العربيّة التي لم تعد تشكّل مؤخّرًا وفقًا لدراسات عدّة سوى ما يقارب الـ 1 في المئة، إشكاليّة تتّخذ مداها مع كلّ عمل مترجم: “كيف تتولّد رؤية المترجم للنتاج الغربيّ؟ وإلى أيّ حدّ يستطيع المترجم أن يكون شاعرًا يكتب القصائد في ديوان له هويّة واحدة وأصوات مختلفة؟
لا شكّ أنّ إصدار “حمّالو الندوب” أكّد أن الشعر يستطيع أن يكون تحت بيت واحدٍ بعيدًا عن حصره بمنطق الشكل والنسق والوزن، وإنّما الموضوعيّة وتدرّج الشعراء في مقاربتها لهما الدور الأهمّ والأكبر أيضًا.