الجمعة, نوفمبر 22
Banner

مجتمع الـ20% ينمو… كذلك خطر التفلُّت

أنطوان فرح- الجمهورية

في خلال السنوات التي تلت أزمة الإنهيار المالي في نهاية العام 2019، بدأ يتكوّن اقتصاد الـ20 في المئة بشكل مضطرد، وقد وصل اليوم إلى مرحلة بات واضحاً فيها بالعين المجرّدة. تقود قراءة مفاعيل هذا الاقتصاد، إلى فرز مجموعة من الفوائد والأضرار التي تواكب هذا الوضع الاستثنائي.

كلما اجتمع اثنان في هذه الفترة، يكون ثالثهما الحديث عن الأسعار في لبنان، وكيف انّها عادت إلى الارتفاع التدريجي، وبالدولار، وصولاً إلى اقترابها مما كانت عليه قبل الانهيار. وفي تلك الحقبة، كانت بيروت واحدة من أغلى المدن في العالم.

من الوجهة الاقتصادية، يعتبر مؤشر الأسعار، من المعايير التي تشير إلى وجود بحبوحة. بمعنى، انّ المنافسة في أي نظام اقتصادي حرّ، هي التي تقود إلى تحديد سعر السلعة. وعندما نتحدث عن سلع غير أساسية، مثل خدمات المطاعم والمنتجعات، فإنّ الموضوع لا يتعلق بجشع تجار، أو غياب رقابة حكومية، بل بمتطلبات وشروط السوق، الذي يفرض إيقاعه من خلال العرض والطلب، ولا شيء غير ذلك. وبالتالي، إذا كانت أسعار الخدمات المطعمية، وسائر الخدمات المصنفّة من الكماليات، وأحياناً من النوع الفاخر (Luxury services)، إرتفعت إلى مستويات، اقتربت معها من الأسعار القائمة في العواصم الاوروبية المصنّفة غالية، فهذا يؤكّد وجود قدرة شرائية لدى عدد من المواطنين يكفي لتشغيل السوق. ولولا ذلك، لكنا شهدنا انخفاضاً في الاسعار، وإقفالات اكثر للمؤسسات.

هذا الامر حصل في بداية الأزمة، لكن السوق تأقلم مع الوقت، ووصل إلى مرحلة بتنا نشهد فيها عودة افتتاح مؤسسات كانت قد أقفلت، او حتى فتح مؤسسات جديدة.

هذا الواقع الاقتصادي، ورغم غياب الإحصاءات والأرقام التي يمكن الاستناد اليها، يشير إلى تنامي عدد المواطنين الذين يمتلكون مداخيل مرتفعة بما يكفي لتشغيل هذه المؤسسات.

وهذا الوضع ليس عادياً، ولا يحصل عادة في الدول التي تعاني انهيارات مالية بحجم التي يعانيها لبنان. وعلى سبيل المثال، واجهت الارجنتين انهياراً مالياً حتّم تدخّل صندوق النقد الدولي اكثر من مرة لمساعدتها. وحصلت الارجنتين على اكبر قرض في تاريخ الصندوق في العام 2018 وصل إلى 57,1 مليار دولار. ومع ذلك، فإنّ اسعار الكماليات في بوينس ايريس منخفضة جداً قياساً بالأسعار في بيروت. مع الإشارة هنا إلى انّ الحدّ الأدنى للاجور في الارجنتين يقارب الـ300 دولار شهرياً، في حين انّه تدنّى في لبنان إلى حوالى 95 دولاراً، وفق سعر الدولار الحالي. بما يعني انّ مستوى مداخيل الموظفين في الارجنتين أعلى بثلاثة اضعاف منها لدى الموظف اللبناني. وبالتالي، فإنّ تفوّق بيروت في الغلاء لا يعتمد على مستويات الاجور، بل على وجود طبقة من اللبنانيين تتمتّع بمستويات دخل مرتفعة نسبياً، قادرة على دعم الطلب، ودفع الاسعار إلى الارتفاع.

ما يساعد في نمو هذه الطبقة من ذوي الدخل المرتفع قياساً بالوضع المالي في البلد، الحقائق التالية:

اولاً- كادرات بشرية ذات مستويات تعليم جيدة، قادرة على العمل في ما تبقّى من شركات عالمية تعمل عبر فروع او مكاتب لها في بيروت.

ثانياً- كادرات تعمل عن بُعد، في شركات عالمية لا تستهدف سوق بيروت او المنطقة. هذه الظاهرة نمت واستوعبت اعداداً اضافية من الموظفين بفضل السلوك الجديد الذي فرضته جائحة كورونا. هذا النمط من العمل انتشر واستمر بعد كورونا، وهو لا يزال قائماً في كل دول العالم.

ثالثاً- وجود لبناني نوعي وكمّي في دول الانتشار، ساعد في تأمين وظائف عن بُعد لعدد كبير من اللبنانيين.

رابعاً- قسم من اللبنانيين العاملين في الخارج، وتحديداً في دول الخليج العربي، بدّلوا في سلوكهم الحياتي لأسباب متنوعة، وباتوا يزورون لبنان اسبوعياً، او كل اسبوعين مرة. عدد هؤلاء لا يستهان به، وباتوا يشكّلون عنصراً داعماً للإنفاق في البلد، إذ لم يعد القدوم إلى لبنان في الاعياد فقط، اي مرة او مرتين فقط في السنة، كما كان الحال في العقود الماضية.

خامساً- قسم من الشركات اللبنانية التي تعمل عن بُعد، مثل شركات اقتصاد المعرفة وسواها، أعادت مستويات الأجور لديها إلى ما كانت عليه قبل الانهيار.

سادساً- مؤسسات وشركات لبنانية تستهدف الأسواق الخارجية والمحلية، وبفضل اتساع رقعة الذين يمتلكون قدرات شرائية مرتفعة، رفعت مستويات الاجور لديها وأصبحت بالفريش دولار، وتلامس مستويات الاجور قبل الأزمة.

بالإضافة طبعاً إلى طبقة الميسورين، او الذين سحبوا ايداعاتهم قبيل الأزمة، ويتمكنون اليوم من الإنفاق بحرّية اكبر.

كل هذه المعطيات سمحت بتكوّن مجتمع الـ20%. وهذا الأمر ايجابي من حيث المبدأ، لأنّه يساعد في التعافي لاحقاً بسرعة. لكن الناحية السلبية تكمن في اتساع الهوّة بين هذه الطبقة الجديدة، وبين المسحوقين الذين يعيشون تحت مستويات الفقر. وقد تمّ تقدير هؤلاء بحوالى 70% من السكان، فيما نسبة الفقراء في الارجنتين مثلاً هي 45%.

هذا الواقع يشكّل جرس إنذار، وينبغي الإسراع في الانتقال إلى خطة التعافي، وعودة الاقتصاد الى مسار طبيعي، لكي تتمكن السلطات من ردم الهوة بين الناس، لأنّ استمرارها على ما هي عليه، يهدّد المجتمع والأمن، ولا احد يستطيع ان يضبط وضعاً مماثلاً لفترة طويلة، لأنّ خطر التفلّت سيصبح أقوى من قدرات اي جهاز على ضبطه. انّها مسألة وقت، والوقت هو العنصر الذي لا تعيره السلطة الجاهلة اي اعتبار.

Leave A Reply