محمد بسام – الأخبار
لم يكن في بالي التعليق على كتاب الزميل، الصديق العتيق، د. منذر جابر، بعنوان: «يوسف بك الزين، من جبل عامل إلى الجنوب اللبناني»، لكن البروفيسور اللمّاح أسعد أبو خليل قدّم قراءة سريعة له في «الأخبار» (عدد 29 نيسان 2023)، وفيها ينقل من الكتاب موقفاً للإمام عبد الحسين شرف الدين مع الجنرال غورو (1920)، يُلمح منه شيء من ارتداد الإمام عن مشروع الوحدة السورية المستقلة، والقبول بمشروع لبنان الكبير تحت الوصاية الفرنسية. ما جعل حفيد الإمام، السيد محمد عبدالله شرف الدين، يعقّب على الحدث لرفع الظلامة عن جدّه، («الأخبار» 6 أيار 2023) فاستعرض كل مواقف الإمام الوطنية العروبية، بكل أمانة وصدقية. لكنه لم يفِ لقاء الإمام والجنرال حقّه، وعليه، وتوضيحاً للأمور ولوضعها في نصابها، جئت بهذا التعقيب على التعقيب، إحقاقاً للحق، وتصويباً لما حرّف من تاريخ جبل عامل.
ورأيي المتواضع أن الكتابة التاريخية اليوم: «أو بتحنن أو بتجنن»! إنّ أهم ضوابط التأريخ الاجتماعي العلمي الحديث وموضوعيته وصدقيته وأمانته، هو إيراد إحداث الماضي ضمن زمانها وظروفها، من دون انتقائية أو استنسابية. فإخراج الحدث من إطاره وأسبابه يفقده دلالاته وعِبَره المستفادة، وينحرف به عن سياقه، للاستثمار به كيفما يريد الباحث أو المؤرخ، وهذا ما يُعرف بـ«صناعة التاريخ» لا تحقيقه.
صحيح، ظاهرياً، ما جرى بين الإمام شرف الدين والجنرال غورو من لقاء وقبول، لكن ليس من باب «الواقعية السلوكية»، بل من باب «الإكراه السياسي والتجبّر». فتحرُك الإمام كان، مشكوراً، بحكم مسؤوليته الشرعية عن «أمّته»، ولم يكن تحركاً استعراضياً «على البارد» بل «على نار حامية» أرهبت العامليين. ففي مطلع 1920، وبعد عدة غارات للمقاومة العربية على الفرنسيين في نواحي مرجعيون، كانت حملة فرنسية تأديبية انتقامية على جبل عامل، تعيث خراباً وتدميراً وإحراقاً وإزهاقاً واعتقالاً في قراه وسكانه العزّل، في ظل قعود كل أعيانهم، ونزوح زعيمهم التاريخي من آل الأسعد (كامل بك) إلى الشام. فأحسّ العامليون بشيء من «اليتْم السياسي»، وخلا جبل عامل من أية صرخة إلا من صوت الإمام شرف الدين الذي استنكر الفظائع الفرنسية، «وطلب التروّي والبحث في هذه الأحوال وتلافيها بغير ما هو جارٍ الآن»، على ما ينقل الشيخ أحمد رضا في «مذكرات للتاريخ». ولحسن الظروف كان استدعاء الإمام من قبل الحاكم الفرنسي، في 14 كانون الثاني 1920، للحضور على عجل إلى بيروت لمقابلة الجنرال غورو، والتباحث في شؤون جبل عامل الأخيرة؛ فكان «هذا اللقاء» منتهى أمنية الإمام للبحث ومعالجة الوضع الكارثي في جبل عامل، ولم يكن لشأن شخصي للسيد. وعليه، وتبياناً للحقائق، ننقل صورة ذلك «اللقاء» وظروفه ومجرياته، بكل أمانة وتوثيق وتحقيق، من مختلف المصادر، وبالإيجاز المفيد.
حقائق اللقاء بين الإمام والجنرال، ظروفه، ونتائجه
من هنا كانت البداية، فيما كان الأمير فيصل في باريس يجري مفاوضات شاقة مع الفرنسيين، طلب من أخيه الأمير زيد القيام بأي عمل عسكري ضاغط على التفاوض. فأشار زيد بتسخين جبهة مرجعيون. وبين كانون الأول 1919 وكانون الثاني 1920 كان الوضع العسكري في جهات مرجعيون خطراً للغاية، إذ إن عربان الجولان (عرب الفضل) ومن معهم من «قوات المقاومة في جبل عامل»، هاجموا الفرنسيين والمتطوعين معهم في ثكناتهم ومواقعهم، واحتلوا الجديدة لعدة أيام، وأجْلوا العسكر الفرنسي وحاصروه في المطلة. وبعد الاستغاثات وتحضير النجدات اللازمة، كان الرد الفرنسي على «الأشقياء». وكانت تعليمات غورو للحملة: استعادة هيبة فرنسا، إعادة الهدوء لمنطقة مرجعيون، ومهاجمة الطيبة لتأديب كامل الأسعد.
(أ) التهجير الأول للبك الأسعد (كانون الأول 1919)
كانت التطورات العسكرية متسارعة، تُحسب بالأيام: في 27 كانون الأول 1919، انطلقت فرقة فرنسية إلى قرى جبل هونين، ومنها إلى عديْسة ثم إلى كفركلا التي اعتُبرت «مركز تجمع للثوار». وفي كل قرية كانت الحملة تدمر وتحرق بعض بيوتها وتصادر مواشيها وكميات من الحبوب، وتفرض غرامة مالية ذهبية، وتعتقل من الأهالي العشرات. في 28 منه، احتلت الحملة بلدة الخيام وعاثت فيها وغرمتها 500 ليرة ذهبية. ولما كانت بعض الصحف البيروتية تصرّ على اتهام زعماء العامليين بالمسؤولية عن الاضطرابات، اعتبر الفرنسيون كامل الأسعد «أحد محرّكي الثورة في مرجعيون»، فوجهوا إليه، في 29 كانون الأول، قوة خاصة بقيادة المقدم ديسباس (ألف جندي برفقتهم إبراهيم فرنسيس من القليعة) لاعتقاله في مقره بالطيبة. ولكن الأسعد كان قد استبق الحملة باللجوء إلى دمشق، فاستُقبل فيها «بحماسة كبيرة من قبل الحكومة وأعضاء الجمعية الوطنية». فاستبيحت داره ودار قريبه محمد بك السهيل، وصودر أثاثها وبِيع بالجديْدة وصيدا، وفُرض على القرية غرامة ألف ليرة ذهبية، وأُمهل أهلها أربعة أيام لتسليم الأسعد نفسه.
وسريعاً شاء غورو استثمار غياب الأسعد بالشام، فأوفد إلى النبطية الأمير مختار الجزائري ليطلب منهم التطوع في جيش المشرق الفرنسي. فرفض الحاضرون الاستجابة، وأبدوا أسفهم «لِما جرى على كامل بك الأسعد من مصادرة وتخريب داره في الطيبة».
(ب) الانتقام الثاني من العامليين
تتابعت النجدات العسكرية الفرنسية، وفُكّ الحصار عن المطلة، واستُعيدت الجديْدة من أيدي الثوار. وكانت للثوار إغارة على جسر الخردلة. فتتابع الانتقام الفرنسي ثانية من العامليين.
– في 12 كانون الثاني 1920، داهمت الحملة قرية كفركلا، لاشتراك أهاليها في القتال ضد الفرنسيين في الجديْدة والمطلة، وحاول العسكر الفرنسي هتْك أعراض الفتيات فـ«علا صراخهن، وساعدهن عسكر المغاربة المسلم» المنخرط مع القوات الفرنسية. ثم انتقلت الفرقة إلى عديْسة لتأديبها.
– في 17 كانون الثاني، تابعت الفرقة إلى الطيبة بغياب زعيمها البك الأسعد، فاستقبلها الأهالي بالترحاب، ودفعوا الغرامات والأتاوات.
– في 18 كانون الثاني، وصلت الحملة إلى القطاع الأوسط في جبل عامل، وداهمت تولين قرية محمد التامر، وقريتيْ شقراء وحولا (قرية الثائر موسى بو زكلي). وفرضت عليها غرامات مالية بمئات الليرات الذهبية، ومقادير من الشعير (علف للخيل). وفي 19 من الشهر نفسه، وصلت القوة إلى تبنين منهوكة القوى بسبب الطقس المثْلج. وبعد مبيتها هناك، قفلت راجعة إلى المطلة وجديْدة مرجعيون.
(ج) جبل عامل من دون زعامته
إن أهم ما أسفرت عنه الأحداث الأمنية السالفة:
– في باريس، عقد اتفاق فيصل-كليمنصو التسووي (6 كانون الثاني 1920).
– في جبل عامل، نزوح كامل الأسعد إلى دمشق، للتشاور مع حكومتها. واستدعاء الإمام شرف الدين، في 14 كانون الثاني، للتشاور مع الجنرال غورو ببيروت.
وفي اليوم التالي، وصل السيد إلى بيروت لبحث الشأن العاملي مع الجنرال غورو، متواقتاً مع وصول الأمير فيصل، عائداً من باريس باتفاق فيصل-كليمنصو التسووي (6 كانون الثاني 1920).
أمّا المباحثات بين السيد شرف الدين والجنرال غورو، فقد انتهت إلى:
1- طلب السيد من أعيان جبل عامل تأليف وفد لمقابلة غورو، ويعرِّفه عن سكون الطائفة وطواعيتها، «وأن رئاسة البلاد لكامل بك الأسعد».
2- سفر السيد إلى دمشق، في 18 كانون الثاني، ليرجع بكامل الأسعد.
أمّا مباحثات دمشق بين فيصل المهادن والزعيمين العامليين، البك والإمام، فخلُصت، على الترجيح، إلى أمرين:
الأوّل: وعْد العامليين بالتعويض عليهم مما أصابهم من أضرار وخسائر على يد الفرنسيين.
الثاني: النُّصْح بعدم المقاومة المسلحة للفرنسيين. ويُستدل على ذلك بالتالي:
1- عاد السيد والأسعد إلى بيروت (20 كانون الثاني 1920) وقابل الكولونيل نيجر «طالباً النظر في أمره».
2- يروي الشيخ علي الزين عن الشاعر العراقي محمد رضا الشبيبي أن «فيصل قال صراحة لكامل بك بعدم مقاومة جبل عامل للفرنسيين».
3- قامت الحكومة العربية بدمشق بمساعٍ ورسائل لإيجاد التفاهم بين الفرنسيين وكامل الأسعد والعامليين وغيرهم، كالأمير الفاعور والدنادشة. ولاحقاً، في 27 كانون الثاني، كتب فيصل إلى غورو رسالة كي يوعز للفرنسيين باللين مع «أبناء البلاد… لاطمئنان النفوس التي كانت ثائرة»، واعتبر غورو هذه الرسالة بمثابة «سِعاية» من قِبل الأمير لرجوع البك الأسعد.
(د) «الانقلاب» السياسي للزعماء العامليين
بعد عودة الأسعد من الشام، وبانتظار التباحث مع الجنرال غورو، أبرق يوسف بك الزين من بيروت، إلى الشيخ عبد الحسين صادق بالنبطية، لاستعجال الوفد النبطاوي المفاوض (وكان قد طلبه شرف الدين). وبعد مشاورات وجهاء النبطية (26 و27 كانون الثاني)، ارتؤي أن يكون الوفد، شكلاً، من «أكابر العلماء والزعماء»، إنما «قليل العدد» كي لا يُصوَّر الأمر خضوعاً للفرنسيين، أو خيانة شيعية للأمير فيصل؛ فشكل الوفد من الشيخين عبد الحسين صادق ومحمد أمين شمس الدين، والبيكين محمود وفضل الفضل (اعتذر الشيخان أحمد رضا وسليمان ظاهر عن أن يكونا في عداد الوفد)؛ أمّا من حيث المضمون، فقد حُصرت مهمة الوفد بأمرين: الاستشفاع بكامل بك الأسعد، وطلبُ «هدوء الحال؛ على أن لا يمس المبدأ الاستقلالي».
ولكن المباحثات العاملية-الفرنسية في بيروت لم تنتظر وصول الوفد العاملي، ولم تراعِ التحفظات الاستقلالية التي كان يحملها، فبدأت المفاوضات بمن وُجد من الأعيان العامليين في بيروت، وروعيَت فيها «نصيحة» الأمير فيصل «بمهادنة الفرنسيين». وتنقل مخطوطة الشيخ محمد تقي يوسف الفقيه مجريات اللقاء، تقول: طلب غورو الاجتماع برجال الطائفة الشيعية في بيروت، وفي 27 كانون الثاني، وبعد تردد طويل لبّى الدعوة كامل بك الأسعد والشيخ يوسف الفقيه الحاريصي والسيد شرف الدين وآخرون (نحو 13 ذاتاً). ولمّا وصلوا، أُدخل الأسعد منفرداً على غورو، ثم عاد مستبشراً قائلاً: «جئتكم بالبشارة الكبيرة. قالوا: وما هي؟ قال: الالتحاق بلبنان؛ إن آباءنا كانوا يقولون: نيّال من له مرقد عنزة بلبنان». عندها انقسم الحاضرون بين مؤيد لـ«بِشارة» الأسعد ومعارضٍ لها، حتى قال الشيخ الفقيه: «إنا ههنا 12عالماً وفي البلاد نحو 40، وزعيم واحد وفي البلاد نحو 500 وجيه، ونحن لا نستطيع البتّ من دون استشارتهم».
لكن حراجة الوضع لم تكن لتنتظر «الاستشارة الفقـهية» الموسعة، فالجنرال على عجلة من أمره، والمفاوضات كانت تجري في ظل تهديدات فرنسية بالتدمير؛ لذلك، وبكل واقعية سياسية، رضخ الأعيان للإرادة الفرنسية (وليس الإمام شرف الدين منفرداً)، ووعدوا غورو بأن يُعِدّوا «معروضين» إلى مؤتمر الصلح: مآل الأول، انضمام جبل عامل إلى لبنان، «شريطة أن يكون له امتياز خاص ضمن الكيان اللبناني. ومآل الثاني… رفْع هذا التقرير إلى مؤتمر السلام العام». واللافت أن العامليين لم يصرّحوا بطلب الحماية الفرنسية!
وفيما كان الوفد النبطاوي (الشيخان والبيكان) في الطريق إلى بيروت، أبرقت بيروت إلى النبطية بالتالي: «تجلت للحكومة الفرنسية قداسة كامل بك. قريباً يعود مسروراً. طمنوا الجميع».
وبعد ساعات، وصل الوفد النبطاوي إلى بيروت، وانضم إلى جوقة المرتدّين العامليين، المتعلّلين «بمبدأ الضرورة… حفظاً لحياة كامل بك الأسعد»، أو بمبدأ «التقيَّة»، على أن الأمر «منكر أُنكره ولا أستطيع دفعه». وبذلك اكتملت «ردّة» عاملية سياسية على نار حامية وفي ظروف قاهرة.
المباحثات العاملية-الفرنسية في بيروت لم تنتظر وصول الوفد العاملي، ولم تراعِ التحفظات الاستقلالية التي كان يحملها، فبدأت المفاوضات بمن وجد من الأعيان العامليين في بيروت
وأياً يكن، فإن غورو، بعد أن اطمأن إلى هذا «الانقلاب السياسي»، طمع بإسهام العامليين، دولياً، في تنفيذ المشروع الفرنسي-اللبناني. فطلب من كامل بك الأسعد أن يكون في عداد الوفد اللبناني الثالث إلى مؤتمر الصلح، والمؤلف من معظم الطوائف اللبنانية، برئاسة المطران عبدالله خوري، للمطالبة بلبنان الكبير وحماية فرنسا. ولكن الأسعد، المعروف بسياسة «الاعتدال والتذبذب» – كما يقول سليمان ظاهر – تهرّب من مرافقة الوفد بحجة الانصراف إلى دور ميداني، لتأمين العرائض «اللبنانوية» المطلوبة. وفي أول شباط، عاد الأسعد للنبطية ليبدأ، بمساعدة المختارين والمشايخ والبكوات، بتسويق عرائض الانضمام إلى لبنان الكبير، في بلاد بشارة ونواحي الشومر والشقيف والتفاح. واللافت أن بعض «العروبيين» العامليين تجرأوا على رفض توقيع هذه العرائض، (كما في بنت جبيل مثالاً).
وفي 5 شباط، عوّض الأسعد غيابه عن الوفد اللبناني إلى باريس، بتوكيلٍ بعث به إلى غورو، يقول: «قد وكلت باسم طائفتي سيادة المطران عبدالله خوري لدى مؤتمر الصلح، لكي يتابع الطلب والالتماس بربط أنحاء الجبل المذكور [جبل عـامل] في لبنان الكبير، والاشتراك بكافة امتيازاته المخصوصة تحت حماية فرنسا، ممثِلاً إيانا بكافة المراجعات المطلوبة».
هذه بكل إيجاز حقيقة الخضوع العاملي للإرادة الفرنسية. والإيجاز في التاريخ جائز، لكن ليس على حساب الجوهر وحقائقه، أو قلبها إلى ضدها. فالدكتور جابر ينتهي بمشاورات النبطية (أعلاه) إلى وفد من «53 ذاتاً» برئاسة البك الأسعد (ص 162)، والواقع أن الأسعد كان بعدُ في بيروت، والوفد النبطاوي كان مؤلفاً من شيخين وبيكين فقط (كما ورد أعلاه، راجع مذكرات أحمد رضا 2 و3 شباط؛ ومفكرات ظاهر 2 و4 شباط 1920). أمّا الوفد الموسع من «53 ذاتاً» فهو وفد ثان شكّله الأسعد برئاسته، بعد تصالحه مع غورو، وبعد عودته إلى جبل عامل لإعداد عرائض الانضمام العاملي إلى لبنان. وفي 7 شباط 1920 عاد الأسعد بوفده الموسع لمقابلة غورو، وخطب باسمه مطرياً على فرنسا «لِما فيها من العدالة والحرية وما لها من الفضل على الإنسانية».
وهنا تسهم جريدة «البشير» في إرجاف التأريخ، فتقول: في 7 شباط 1920 حضر الأسعد إلى بيروت بوفد علماءٍ وأعيان (53 شخصاً) إلى غورو؛ لكنها تجعل الإمام شرف الدين في عداد الوفد (افتئاتاً) وناطقاً باسمه، وأوردت على لسانه خطاب الأسعد وإطراءه على فرنسا. لكن يستفاد من مجلة «الألواح» و«صفحات من حياتي» للسيد شرف الدين، أنه لم يرافق هذا «الوفد»؛ وبالتالي لم يخطب باسمه، والكلام الوارد على لسانه هو للبك الأسعد. والسيد يستنكر انسياق الزعماء العامليين مع الإرادة الفرنسية، فيقول: «وكان لهؤلاء الإقطاعيين المذبذبين شأن في هذا العصيان… فهم معنا بوجه ولسان، ومع الفرنسيين بوجه ولسان، ومع الأمير فيصل بوجه ولسان غير هذين».
إن الإمام شرف الدين كان ثابتاً، بالوقائع والوثائق، على مبادئه ورعاية «رعيته»، ولم يتخاذل لحظة في السنتين الأوليين من الاحتلال الفرنسي (1918-1920) عن خدمة العروبة والوحدة
فأي المصدرين أصدّق؟ «البشير» أم «ألواح» شرف الدين؟ ولماذا اعتمد د. جابر رواية «البشير»؟ أمّا اعتمادي رواية الإمام شرف الدين، فهو لما عُرف من مهابته والتزامه الشرعي واستقامته الأخلاقية! وهو لم ينكر تفاوضه و«مهادنته» للجنرال غورو. وللإضاءة على شخصية الإمام شرف الدين ومبدئيته، أورد، فقط، موقفاً واحداً مميزاً بجرأة السيد المتمادية، عند اللزوم، حتى على البك الأسعد نفسه: ففي حزيران 1919، قامت صور بانتفاضة إدارية، باستقالات جماعية لكبار المأمورين، وتقاعس البك الأسعد عن مؤازرتها، فبعث إليه السيد كتاباً غاضباً شديد اللهجة (أورده الشيخ سليمان ظاهر في تقاريره إلى دار الاعتماد العربي/ بيروت) طالباً إلى الأسعد بالحرف: «عدم التخلّف عن جماعته في كل عمل يأتونه، عملاً بالزعامة التي يدعيها على البلاد… وإلا فليعذر الطائفة إذا أحلّته المحل الذي أنزل نفسه فيه». وكان أن سارع الأسعد إلى صور للوساطة.
في تقديري، إن هكذا رجل وقور كالإمام، ماضي العزيمة، لا يقابَل بأقوال جريدة سياسية موالية للفرنسيين.
(هـ) الظروف العاملية لـ«الردّة» السياسية
(نعفُّ عن تفصيل الظروف الخارجية التسووية) كان العامليون ثابتين «على مبدأ الميل إلى الأمير فيصل»، إنما التباحث مع غورو في بيروت كان يجري تحت وطأة ظروف محلية ضاغطة أهمها:
1- مأساة العامليين في نكبتهم وتهجيرهم بعد الحملة الانتقامية الفرنسية
2- خشي البعض أن «يقع من ذلك ضرر بكامل بك وينسب ذلك إليه»
3- حملة صحافية تدعو الفرنسيين للتشدد، وألّا «يعجِّلوا بتبرئة العامليين»
4- تهويل فرنسي أوحى بأن «زعماء البلاد وعلماءها كانوا تحت الخطر»
هذه الأمور مجتمعة كانت كفيلة بأن تجعل الزعماء العامليين يغلِّبون التفاهم مع السلطة الحاكمة. خصوصاً أن الأمير فيصل وأجواءه المهادنة ونُصْحَه العامليين (وكل الثائرين) بالتهدئة، أوجدت الأعذار للمترددين.
ومهما يكن، إنّ الثوار العامليين، بعد هذه الردّة الزعامتية، أدركوا أن الانسياق مع المحتل الفرنسي لا يقتصر على مسيحيين، بل يشمل زعماء مسلمين؛ حفظاً لمكانتهم. وبعدها، صارت إغارات المقاومة أكثر وعياً فتشمل أنام كل الأديان: يهوداً ومسلمين (مثال إغارتهم على يهود مزرعة التخشيبة، وإغارة على مزرعة سيناي ليوسف بك الزين، واستياق مواشيها، وتدخل البك الأسعد لردها).
ثم كانت للثوار إنجازات عسكرية وسياسية، أسهمت في إعلان الملكية في دمشق في 8 آذار 1920، قبل أن تنهيهم «حملة نيجر» في حزيران 1920.
وعليه، والحق يقال، لا زلفى ولا تملقاً، إنّ الإمام شرف الدين كان ثابتاً، بالوقائع والوثائق، على مبادئه ورعاية «رعيته»، ولم يتخاذل لحظة في السنتين الأوليين من الاحتلال الفرنسي (1918-1920) عن خدمة العروبة والوحدة السورية والاستقلال الناجز، وهو لعب دوراً محفزاً للعامليين على مقاومة الفرنسيين، بشهادة الأرشيف الفرنسي. وكاد يُقتل، كما هو معروف، على يد جنديين فرنسيين وجبران الحلاج (من صور) في 14 كانون الثاني 1919. ولعب دوراً هاماً في إخماد الفتن الطائفية (فتنة المغنية في صور مثالاً). ولا تتأثر شهادتي فيه كونه رجل دين، أو ممن يُطلق عليهم لقب «إقطاع ديني»؛ فالدين لله والوطن للجميع! والتاريخ يشهد. وجبل عامل فوق الجميع، وأنا في صدد تحقيق تاريخه الوطني اللبناني.
[معلوماتي الموجزة في هذا التعقيب واردة، بإسهاب للراغبين، في كتابي الموثق «جبل عامل بين سوريا الكبرى ولبنان الكبير، حقائق بالوثائق»، 2011. وقد صدرت إطراءات على توثيقه وموضوعيته من أعلام ومؤرخين، ونفدت الطبعة الأولى، وحتى تاريخه، لم يعترض أحد على معلوماته، ولم يردّ عليه أحد من الباحثين أو المؤرخين. وعليه، فإن مضمونه موثوق، وأحضّر، بإذن الله، لصدور طبعة ثانية مزيدة]
* مؤرخ