أسرار شبارو – الحرة
“غفلة واحدة قلبت حياتنا رأسا على عقب، أدخلت طفلي محمد إلى المستشفى وأدخلتني وزوجي في آتون كلفة الاستشفاء التي لا ترحم، ففي لبنان المصيبة مضاعفة، وكأنه لا يكفي ألم الوالدين على حال صغيرهما حتى يجبرا على التفكير في كيفية تأمين كلفة علاجه”… بهذه الكلمات بدأت زينب الحديث عن معاناتها خلال رحلة علاج ابنها من حروق طالت نصف جسده.
قبل حوالي الشهر، سمعت زينب صوت صراخ محمد، سارعت لمعرفة ما الذي أصابه، وإذ بها تصدم حين رأته عالقاً في قدر الحليب المغلي، وتشرح “في ذلك اليوم جلب لي زوجي الحليب، وكما العادة غليته على نار موقد صغير موجود في الشرفة، وبعدما انتهيت وضعت القدر للمرة الأولى على الأرض ودخلت إلى المطبخ لأكمل عملي، حينها كان صغيري في الغرفة، وإذ به يتوجه نحو الشرفة لتحل الكارثة”.
انتشلت زينب طفلها وتوجهت به إلى المغسلة وبدأت بتبريد جسده بالماء، ومن ثم نقلته وزوجها إلى مستوصف بلدته تل حياة في شمال البلاد، فطلب الطبيب نقله فوراً إلى المستشفى، وتقول لموقع “الحرة”، “لو لم يكن جارنا برفقتنا لما استطعنا إدخاله، فقد دفع بداية ألفي دولار، لتكون صدمتي التالية أن كلفة كل يوم علاج 500 دولار، وبأنه يحتاج أن يمكث ما يزيد عن الشهر، هذا عدا عن عمليات زرع الخلايا التي خضع لستة منها كلفة كل واحدة 500 دولار”.
ما يزيد عن العشرين ألف دولار دفعها أصحاب الأيادي البيضاء إلى ابن العامين ونصف العام لكي يتمكن من تلقي العلاج، وتشير زينب إلى أنها لم تجد أمامها سوى نشر قصته لجمع التبرعات، “فوزارة الصحة لا تغطي سوى نسبة قليلة من الفاتورة الاستشفائية وفوق هذا طرقنا بابها من دون أن نلقى سوى الوعود بالمساعدة، ونحمد الله ان احدى الجمعيات غطّت كلفة ثلاثة أسابيع علاج، في حين غطّى عدد من الخيّرين وصاحبة صفحة “بصمة خير” على فايسبوك بقية التكاليف”.
أجبرت الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان منذ عام 2019 وما نتج عنها من انتشار رقعة الفقر وارتفاع الأسعار بصورة جنونية، عدداً من اللبنانيين على استجداء استشفاء وطبابة أولادهم من خلال اللجوء إلى مواقع التواصل الاجتماعي والجمعيات، لكي لا يحرم أطفالهم من حقهم بالعيش من دون ألم ومعاناة وخطر مفارقة الحياة، وفي يونيو الماضي أشار مدير الدولية للمعلومات جواد عدرا إلى أن 93 في المئة من اللبنانيين عاجزون عن تسديد كلفة طبابتهم واستشفائهم.
أطفال على صفحات الانتظار
بعد الحادثة عاشت زينب وابنها حالة من الصدمة لنحو أسبوعين، وتقول “لم يكن يتقبّل أي إنسان ولم يكن ينطق بكلمة، أما أنا فلم يغمض لي جفن ولم أكن أرغب بتناول الطعام والشراب، رؤية صغيري يتألم والخوف من خسارته وإمكانية فشلي في جمع المال لعلاجه سيطرا عليّ، كون وضعنا المادي لا يسمح لنا بدفع كلفة يوم واحد من علاجه، فزوجي عامل يومي يجاهد لتأمين قوت عائلته المؤلفة من ثلاثة أولاد”.
من خلال نشر قصة طفلها نجحت زينب في حجز مقعد له لما يزيد عن الشهر في المستشفى، في حين يأمل عدد من الآباء أن يتمكنوا من الخروج من دوامة البحث عن كيفية جمع المبلغ الذي يحتاجه أطفالهم للاستشفاء، منهم علي الذي لم يكد يفرح بولادة طفلته عائشة قبل شهرين حتى تبيّن أنها تعاني من الفتق السرّي، ويقول لموقع “الحرة”، “أطلعني الطبيب بداية أن عمرها لا يسمح بإجراء هذه العملية الجراحية لها، لنكتشف بعد فترة أنها أصيبت بفتقين إضافيين”.
يحاول ابن بلدة عيون السمك في شمال لبنان، كل ما في وسعه لتأمين 75 مليون ليرة فارق تغطية وزارة الصحة للعملية الجراحية كما يقول، شارحاً “لم أجد أمامي سوى إرسال صورة ابنتي وتقرير الطبيب إلى ناشط اجتماعي من تجمع شباب إيزال لنشر حالتها على صفحته عبر موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك، علّها تكون وسيلة لوضع حد لأوجاعها” ويشدد “المبلغ المطلوب كبير فأنا عامل يومي مسؤول عن أسرة مؤلفة من ستة أولاد”.
توصلت دراسة نشرتها الدولية للمعلومات في يناير الماضي، حول عدد الأسرّة ونسبة الإشغال في مستشفيات لبنان قبل الأزمة وما بعدها، إلى أنه قبل الأزمة، كان هنا نحو 10 آلاف سرير، وتراوحت نسبة الإشغال بين 60%-70%، أي نحو 6 آلاف-7 ألاف مريض، لافتة إلى أنه “تمّ إغلاق عدد من الأقسام في المستشفيات، وانخفض عدد الأسرّة إلى 6 آلاف سرير، وتراوحت نسبة الإشغال ما بين 50%-60%، أي ما بين 3 آلاف إلى 3,600 مريض، ما يقارب نصف عدد المرضى قبل الأزمة”.
حقوق في مهب الفقر
استجداء اللبنانيين لا يقتصر على محاولتهم تأمين فاتورة استشفاء أطفالهم، بل منهم من يعجز حتى عن شراء الأدوية لهم، بعد أن وصل سعرها مع رفع الدعم عنها إلى مئات الآلاف لا بل حتى ملايين الليرات، منهم نجود التي لم تجد أمامها وسيلة لوضع حد لأوجاع البطن التي تعاني منها رضيعتها ماريا، سوى طرق باب أحد الناشطين لعرض حالتها على صفحته، علّها تتمكن من شراء الدواء لها والبالغ ثمنه مليوني ليرة.
حتى كلفة بدل النقل لاصطحاب ابنتها إلى المستوصف غير متوفرة كما تقول نجود لموقع “الحرة”، مشيرة إلى أن راتب زوجها من معمل الأجبان والألبان الموظف فيه لا يكفي لشراء الحليب والحفاضات، “فكيف سيؤمن باقي الحاجيات من طعام وشراب وبدل ايجار المنزل”.
“مع وصول النظام الصحي في لبنان إلى حدّ الانهيار بسبب الأزمات العديدة التي ضربته في الصميم، لم يعد بإمكان كثير من العائلات”، بحسب تقرير لليونيسف صادر في أبريل 2022 من “الانتقال حتى إلى المرافق الصحية للحصول على الرعاية الصحّية الأولية لأطفالها في ظلّ كفاح العديد من العاملين في القطاع الصحي، الذين يتفانون في مهنتهم، للحفاظ على حسن توفير المتطلبات الصحية خلال الأزمة”.
وكانت منظمة العفو الدولية دعت الحكومة اللبنانية في نوفمبر الماضي إلى تأمين الدواء وبأسعار معقولة، موضحة في بيان كيف فرضت الأزمة الاقتصادية المستمرة في لبنان، إلى جانب استجابة الحكومة المخيبة للآمال، ضغوطاً هائلة على القطاع الصحي الهش أصلاً، وأنه بالتزامن مع انهيار الليرة اللبنانية بشكل متسارع واستنزاف احتياطي المصرف المركزي من العملات الأجنبية، أعلنت وزارة الصحة العامة في 9 نوفمبر 2021 عن رفع الدعم بالنقد الأجنبي عن جميع الأدوية باستثناء أدوية السرطان وبعض الأمراض المزمنة الأخرى بمفعول فوري. ونتيجة لرفع الدعم، ارتفعت أسعار معظم الأدوية بشكل هائل.
وفي مارس الماضي، أعلنت نائبة مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المنظمة آية مجذوب، أنه “يتعين على الحكومة اللبنانية أن تتخذ بصورة عاجلة خطوات أخرى لمعالجة حجم الأزمة الصحية في لبنان، وجعل تكلفة الرعاية الصحية في متناول الناس. كما عليها أن ترفع ميزانية مراكز الرعاية الصحية الأساسية، وأن تعزز برامج المساعدات الاجتماعية، وأن تُجري الإصلاحات الاقتصادية والمالية التي طال انتظارها والضرورية لحماية حقوق الإنسان”.
“أقصى درجات الذّل”
“لولا مواقع التواصل الاجتماعي لكنا سمعنا عن مفارقة عدد من أطفال لبنان الحياة نتيجة عدم قدرة أهلهم على تأمين الفاتورة الاستشفائية” بحسب ما يقوله الناشط في “تجمّع شباب إيزال”، طارق أمّون، مضيفاً في حديث لموقع “الحرة”، “تصلنا العديد من الحالات لأطفال يحتاجون إلى علاج، منهم حديثي الولادة يتطلب وضعهم البقاء في حضانة المستشفى لعدة أيام، حيث أن كلفة الليلة الواحدة في المستشفيات الخاصة 300 دولار و100 دولار في المستشفيات الحكومية، في حين لا يملك آباؤهم منها دولاراً واحداً، عدا عن الحالات الأخرى لأطفال يحتاجون إلى عمليات جراحية وطبابة”.
لم يعد الأهل يبالون كما يقول أمّون “بذكر أسمائهم وأسماء أطفالهم وحتى صورهم وتقاريرهم الطبيّة، فبين الخجل من طلب المال والحفاظ على حياة أبنائهم بالتأكيد سيختارون الخيار الثاني”، وعندما يصل الأهل إلى استجداء علاج طفلهم أو أي فرد من عائلتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي يعني انهم بحسب رئيسة “جمعية نضال لأجل الانسان” ريما صليبا “يتوسلون الحياة له، لذلك هم مستعدون لفعل أي شيء كي لا يفقدون عزيزهم، رغم أن الحق بالوصول إلى العلاج والدواء من حقوق الإنسان المصانة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية لا سيما اتفاقية حقوق الطفل المصادق عليها لبنان”.
ليس لدى “تجمّع شباب إيزال” صندوق مالي لمساعدة الأهالي على دفع تكاليف علاج أبنائهم، فما يقوم به بحسب أمّون هو “طرح الحالة عبر مواقع التواصل الاجتماعي لجمع التبرعات، بداية عبر مجموعة التجمع على واتساب إن كان الطفل أو الطفلة من أبناء بلدتنا، كونها تضم مغتربين في قطر وأستراليا والسعودية، فإن تأمّن المبلغ المطلوب لا نضطر إلى عرض الحالة عبر فايسبوك من خلال منشور ومن ثم من خلال بث مباشر لكي تصل القضية إلى أكبر عدد من الخيّرين”.
كذلك تشدد صليبا على أهمية الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي “فمن خلالها يمكن إيصال أي قضية بأسرع وقت ممكن إلى أكبر عدد من الناس في مختلف أنحاء العالم، واللجوء إليها يعني أن المواطن فقد الأمل بتأمين مسؤوليه العلاج لطفله، ورغم أهمية هذه الوسيلة إلا أنه للأسف لم تسلم من عمليات النصب”.
وتشرح صليبا “يحاول البعض الحصول على الأموال من خلال طرح حالات وهمية وهو أمر واجهناه في الجمعية، كأن يطلب أحدهم الدواء لطفله وعندما نعرض عليه تأمينه إما يصر على أن نرسل ثمنه أو يتوقف عن الرد على رسائلنا، لا بل هناك من يستخدم أسماء مرضى فعليين لجمع الأموال من دون علمهم، غير آبه بحرمانهم من الحصول فعلاً على فرصة لتأمين ثمن علاجهم”.
وتجنّباً لعمليات النصب لا يسلّم “تجمع شباب إيزال” الأموال التي تصله إلى الأهل، بل كما يقول أمّون “ندفعها مباشرة للمستشفى بعد التفاوض مع مديرها للحصول على تخفيض، ونتيجة تعاملنا المتكرر مع مدير مستشفى طرابلس الحكومي ناصر عدرا، أصبح يتجاوب معنا مشكوراً في خفض قيمة الفاتورة الاستشفائية، كما أن إحدى الموظفات في المستشفى لا تتوانى في أحيان كثيرة عن تعبئة طلبات للجمعيات لتغطية بعض الحالات”.
ما يحصل يشير كما تقول صليبا “إلى مدى فداحة الوضع ودرجة الذّل التي وصل إليها اللبنانيون، كما أنه يؤكد انحلال الدولة ومؤسساتها وقطاعاتها، لا سيما القطاع الصحي الذي يعتبر أساسي لتصنيف أي دولة فيما إن كانت فاشلة من عدمه، ورغم ذلك لا يولي المسؤولون أي أهمية لإيجاد حلول تنقذ حياة اللبنانيين صغاراً وكباراً كونهم متكلين على جهود الناشطين والمجتمع المحلي والجمعيات”.