تسع نساء دفعن حياتهن منذ بداية السنة حتى الآن في لبنان، فعلى “مسارح” متعددة وبأدوات جريمة متنوعة ولأسباب مختلفة، سقطن على أيدي من اعتبرنهن يوما من أقرب الناس إليهن، لتسجل أسماؤهن على لائحة ضحايا العنف الأسري التي تطول يوما بعد يوم.
مسلسل العنف ضد النساء مستمر، وفي وقت كُتب لثلاث منهن النجاة من محاولات قتل بحسب منظمة “كفى”، فضّلت 6 أخريات وضع حد لحياتهن على ما يتعرضن له، ليبقى وجع كثيرات مختبئا خلف جدران تحول دون سماع أنينهن وصراخهن وتمنع خروج معاناتهن إلى العلن.
أغلب القصص التي يُرفع عنها الستار تعود لنساء عنّفن على يد أزواجهن، لكن هناك فتيات تخشى الإفصاح عما يمارسه آباؤهن وأشقاؤهن بحقهن، كما حصل مع عبير (اسم مستعار) التي رفض والدها قبل أشهر ارتباطها بشاب أحبته، وحين أصرت على ذلك اتهمهما بممارسة علاقة جنسية معه، ضربها قبل أن يجبرها على التوجه عند طبيب أجرى فحص العذرية لها، ليعلن بعدها “براءة” ابنة الـ 18 عاماً.
نجت عبير من “جريمة شرف”، إذ حتماً كان والدها سيخط السطر الأخير من حياتها بالدم فيما لو لم تثبت براءتها، كما نجت من الانتحار لو كان غشاء بكارتها فضّ وعائلتها تريد أن تُخضعها لفحص، لكنها لم تنجُ نفسياً، فما تعرضت له أفقدها ثقتها بمثلها الأعلى ومن كانت تعتبره سندها و”سلاحها” في وجه كل من يحاول إيذاءها وإذ بها تصدم بأن “الطلقة” الغادرة التي أصابتها كان هو مطلقها.
وعلى عكس عبير، لم تنجُ زينب زعيتر من الموت، حيث سقطت في مارس الماضي بثماني طلقات نارية صوّبها عليها زوجها بعدما اتهمها بشرفها، ليتفاخر بعدها أقاربها “بغسل عارهم”، لاسيما شقيقها الذي ظهر في مقطع فيديو مؤكداً أنه كان هو من سيقتلها لو لم يفعل ذلك زوجها.
وقبل أيام قتل ربيع فرنسيس زوجته سحر ووالدتها تيريز بتسع طلقات نارية ثم أقدم على الانتحار أمام عيني إبنه الأكبر الذي سارع عند سماع أزيز الرصاص وخلع باب غرفة النوم ليجد والدته وجدته غارقتان بدمائهما ووالده يصوب المسدس على صدره، حاول منعه من إطلاق النار على نفسه من دون أن ينجح في ذلك.
جحيم العقلية الذكورية
قصص تعنيف النساء والفتيات لا تعد ولا تحصى، منها قصة إيمان وشقيقاتها الخمس، اللواتي أجبرن على مدى سنوات طويلة كتابتها بحبر الألم والقهر، وبحسب ما تقوله “بدأت رحلة تعنيفنا على يد شقيقي الأكبر حين بلغت الـ 16 سنة، لأبسط الأخطاء كنا نتعرض للتعنيف اللفظي والجسدي وأحياناً من دون أن نرتكب أي خطأ، أذكر في إحدى المرات كيف هاجمني ما إن دخلت من باب البيت، لكمني على وجهي ليمسك بعدها برأسي ويبدأ بضربه بالحائط، شعرت أن جمجمتي تهشمت، ولولا تدخل والدتي لكنت اليوم في عداد الموتى، كل هذا لأنه شاهدني أتحدث مع ابن جيراننا”.
حاولت إيمان وضع حد للعنّف الذي تتعرض له من خلال الهروب من المنزل، علّ شقيقها يدرك بهذه الرسالة غير المباشرة الخطأ الذي يرتكبه بحقها وحق شقيقاتها، وتقول لموقع “الحرة”، “بدأت أسير في الشوارع لا أعلم أين أذهب، وإذ بالصدفة التقيت بخالي، أطلعته على ما أتعرض له، عندها هدد والدتي بأنه سيبلغ القوى الأمنية، فما كان منها إلا أن وعدته بعدم سماحها بتكرار الأمر”.
ما كانت تتعرض له إيمان وشقيقاتها دفعهن إلى قبول الارتباط بأول شخص يطلب يدهن كي ينجَوْنَ من جحيم عقلية شقيقهن، وتشدد “كان علينا أخذ موافقته للخروج من المنزل، حدد مواصفات الملابس التي نرتديها، فالسراويل والقمصان الضيقة والفساتين التي لا تصل إلى أقدامنا كلها محظورة، ليس التزاماً دينياً منه، بل لكونه يريد فرض سلطته علينا بعدما تمكّن من السيطرة على والدي بشخصيته العنفيّة، ليصبح هو المرجع لنا بدلاً منه، وعند أي مخالفة لقوانينه كان التعنيف مصيرنا”.
كما حاول شقيق إيمان منعها وشقيقاتها من إكمال تعليمهن، لكن والدتهن أصرّت على أن يحصلن على شهادات تحميهن من غدر الزمن، وبعد تخرجهن حاربهن لمنعهن من العمل، كل ذلك تقول إيمان “خشية من أن نقع في حب شاب ونمارس علاقة جنسية معه، إذ بالنسبة له كان يحاصرنا للحفاظ على غشاء بكارتنا الذي كان يساوي بينه وبين أرواحنا فلو فقدناه قبل ارتباطنا رسمياً سيكون الموت مصيرنا”.
“منظومة دعم العنف”
خلف العنف الأسري وجرائم القتل التي يشهدها لبنان، منظومة متكاملة ترجّح ميزان القوى للرجل وتسهّل ارتكاب جريمته، بحسب المحامية في منظمة كفى، فاطمة الحاج، التي شرحت لموقع “الحرة” أنه “على رأس هذه المنظومة نظام أبوي سلطوي، إذ منذ ولادتها تخضع الفتاة لسلطة والدها وشقيقها وعندما تعقد قرانها تنتقل هذه السلطة إلى زوجها، إضافة إلى قوانين أحوال شخصية تضع المرأة في موقع التبعية وتعتبرها ملكاً للرجل عليها طاعته”.
خروج المرأة عن الإطار المرسوم لها يعني أنها أصبحت “ناشزاً وتحتاج إلى تأديب” تقول الحاج، مضيفة “المثير للتعجب أننا في القرن الحادي والعشرين ولا زلنا نسمع عن فتيات يتعرضن للعنف لمجرد أن وليّ أمرهن شك بسلوكهن، في وقت لا يمانع من أن يكشف طبيب عليهن لكي يعلم ما حلّ بشرفه بحسب معتقداته، ومن ناحية أخرى لا زال الرجل يعتبر المرأة ملكاً له حتى وإن طلقها، من هنا شهدنا جرائم عدة ارتكبت بحق النساء بعد انفصالهن”.
كذلك ترى رئيسة “الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضد المرأة” لورا صفير، أن “لا حماية للمرأة من العنف الأسري نتيجة العقلية الذكورية المسيطرة والأحكام القضائية المتساهلة رغم إقرار قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري”.
وتشير صفير إلى أن “إلغاء المادة 562 من قانون العقوبات اللبناني المتعلقة بجريمة الشرف لا تعني أنها ألغيت من ذهنية الرجل الذي قد يرتكب جريمة لمجرد الشك بزوجته أو لارتدائها ملابس تخالف قوانينه أو لنشرها صورة لها على مواقع التواصل الاجتماعي، محاولاً الإفلات من العقاب بالاستناد إلى مواد تساعده على ذلك بعد إلغاء المادة 562، كمعاناته من اضطرابات نفسية وغيرها، من هنا على المحققين كشف الدوافع الحقيقة للجرائم والتشدد في العقوبات، لكي يجعلوا المجرم عبرة لغيره”.
يجرّم قانون العقوبات اللبناني التحريض على العنف، ويعتبّر التهديد بالقتل جنحة، بحسب ما تشرح الحاج، أما القتل “فجناية تصل عقوبتها إلى السجن المؤبد أو الإعدام، لكن في المقابل قوانين الأحوال الشخصية تجيز اختلال القوى بين المرأة والرجل، لذلك نجد أن المجتمع يخالف قانون العقوبات بتربية الذكور على مفاهيم خاطئة”.
“الطامة الكبرى”
انعكس الحجر المنزلي الذي فرضه انتشار وباء كورونا، سلباً على معدلات العنف الأسري، كما تقول صفير، شارحة “زادت حالات العنف بعدما فرض على الجميع البقاء في المنزل وما ترتب على ذلك من تشنجات وإشكالات بين أفراد الأسرة، لتستمر بعدها معدلات العنف بالارتفاع مع الأزمة الاقتصادية والمالية وانتشار آفة المخدرات بصورة كبيرة، إذ للأسف تدفع المرأة ثمن الضغوطات النفسية التي يمرّ بها الرجل، تعنيفاً من قبله كونها الكائن الأضعف”.
أما مديرة جمعية “مفتاح الحياة”، الأخصائية النفسية والاجتماعية لانا قصقص، فتربط العنف الأسري بعدة عوامل منها اجتماعية وثقافية واقتصادية وتربوية، وتشرح في حديث لموقع “الحرة”، “بداية يتعلق الأمر بتربية الطفل وتنشئته وكيفية بناء جهازه النفسي، ونظرته إلى نفسه والجنس الآخر، فالأمر لا يتعلق بالأزمة الاقتصادية فقط كما يشير البعض، بل بأسس تربية مبنية على استباحة العنف ضد النساء تعززها الضغوطات النفسية والاقتصادية التي يمر بها الشخص، إذ حينها يعطي لنفسه حق فرض المفاهيم الذكورية وتعنيف المرأة لفظياً ومن ثم جسدياً”.
بعد قصة حب جمعتهما، ارتبطت جمانة بمن اختاره قلبها، كانت كل أمنيتها أن تبقى إلى جانبه طوال العمر وتؤسس عائلة معه، ارتضت بأوضاعه المادية الصعبة والسكن مع أسرته، فرحت كثيراً عندما أطلعها الطبيب أنها حامل، كانت تنتظر بفارغ الصبر أن يبصر جنينها النور لضمه بين ذراعيها، وإذ بكل أحلامها تتحطم بعد أول إشكال جرى بينها وبين زوجها، وتقول “حينها كنا على السرير، لم يعجبن كلامه عن والدتي، فوصفت والدته بذات العبارات، جنّ جنونه وبدأ بلكم بطني بقدميه بطريقة هستيرية، ما أسفر عن خسارة جنيني بعدما حملته في أحشائي ستة أشهر”.
لم تدّع جمانة على زوجها، وبعد أيام أمضتها في منزل عائلتها سامحته، وتشير لموقع “الحرة” “أعطيته فرصة لاسيما وأنه وعدني بعدم تكرار الأمر، لكن بدلاً من ذلك أذاقني طعم كل أنواع العنف على مدى سنوات أمضيتها معه رزقت خلالها بأربعة أبناء، حيث كان لا يبالي بضربي وشتمي أمامهم، ليزداد الأمر سوءاً حين بدأ بتعاطي المخدرات، وفي النهاية انفصلت عنه، حاول كثيراً إصلاح ما بيننا وحين لمس مدى جديّة قراري لم يتوان عن تهديدي بأنه لن يتركني أسعد يوماً من دونه”.
الطامة الكبرى كما تقول صفير أن “المرأة تُعنّف وتُقتل أمام أولادها، وفي مسارح متعددة من المنزل إلى الشارع وغيرهما”، وهو ما لفتت إليه قصقص بالقول “المشاكل النفسية والاجتماعية التي يعاني منها الأطفال (شهود العنف) لا تختلف عما تعانيه والدتهم أو شقيقتهم”.
ندوب خفيّة
استمرت مأساة إيمان لسنوات طويلة، إذ لم يرتدع شقيقها إلا حين أبلغت القوى الأمنية عما يرتكبه بحقها وشقيقاتها، وتقول “في إحدى المرات التقيت به أمام المبنى الذي نقطنه، حينها كان القميص الذي أرتديه يخالف قوانينه فأكمامه لم تكن طويلة بما يكفي كما حدّد لنا، هجم عليّ فركضت خوفاً منه، إلى أن وصلت إلى المخفر، كنت أبكي وأرتجف، لدرجة أن العناصر الأمنية اعتقدوا أني تعرضت لمحاولة اغتصاب”.
فجّرت إيمان غضبها مما يفعله شقيقها أمام القوى الأمنية، فاستدعته سريعاً للتحقيق، ليدافع عن نفسه بالقول “هؤلاء شرفي وأنا أحافظ عليه”، وتقول “تم إلزامه بتوقيع تعهد بعدم التعرض لي، ونصحني المحقق بتقديم شكوى لدى النيابة العامة، باشرت في ذلك قبل أن أتراجع أمام دموع والدتي وتوسلها وتعهدها بمنعه من التعرض لي مجدداً، وبالفعل غض النظر عني وخفّض منسوب عنفه مع شقيقاتي”.
خلال رحلة معاناتها فكّرت إيمان عدة مرات في وضع حد لحياتها، إلا أنه بحسب ما تقوله “معتقداتي الدينية كانت تحول بيني وبين تنفيذ ذلك، نعم ما عشته لا يحتمل لكن الآن أدركت أن لا أحد يستحق أن أخسر روحي بسببه”، وتضيف “هو اليوم يحاربني بطرق عدة منها حرماني من حقي من أموال والدي بعد وفاته، وتهديدي بطردي وشقيقتي التي إلى حد الآن تتعرض لتعنيفه، من منزل العائلة”.
“من الصعب جداً تجاوز ما عشته، فكل إهانة وضربة ولكمة حفرت في ذاكرتي وتركت آثارها في نظرتي للحياة وتعاملي مع الرجال، لذلك أنا أكرهه ولا يمكن أن أسامحه” تقول إيمان بغصة، في حين تؤكد قصقص أن “تعرض المرأة للعنف يترك آثاراً نفسية عليها، فهو يهزّ ثقتها بنفسها ويقتل سعادتها وصولاً إلى إصابتها باضطرابات نفسية قد تدفعها للإقدام على الانتحار في المدى البعيد”.
لا يمكن وضع حد لمسلسل العنف الأسري إلا “من خلال خطة وطنية وقانون شامل للعنف الأسري يغطي كافة الميادين ويلغي قوانين الأحوال الشخصية لدى كافة الطوائف وبالتالي التمييز والتبعية” كما ترى الحاج، مشددة “إذا كان قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري يشكل رادعاً للحد من هذه الجرائم، إلا أنه غير كاف”.
أما قصقص فترى أن الحل يتطلب “سلطة تفرض احترام الحقوق والواجبات وتطبق قانون حماية النساء، وتتحمل وجمعيات المجتمع المدني مسؤولية التدخل الاجتماعي والنفسي لمساعدة الناجيات على تجاوز ما مررنا به ومتابعة المعنفِيّن نفسياً والكشف لهم عن الموروثات الثقافية التي تقف خلف سلوكهم وتؤثر عليهم وعلى عائلتهم وحياتهم “.
أسرار شبارو – الحرة