سوليكا علاء الدين – لبنان الكبير
تكاد تشعبات شبكة الأزمات التي تطارد لبنان منذ أكثر من أربعة أعوام وانعكاساتها لا تنتهي، وها هو السلك الديبلوماسي يواصل دفع ضريبة الإنهيار الاقتصادي المتُمادي ليلحق بذلك سائر قطاعات الدولة الحيوية التي تشظّت بنيران الأزمة الحارقة. اذ أعلن لبنان مجدداً الابقاء على اعتماد سياسة التقشف في سفاراته في الخارج لمدّة سنتين على الأقل، في إطار ترشيد الانفاق بسبب الأزمة المالية المستمرة منذ العام 2019، بحيث شملت الخطة المُعتمدة الاستغناء عن 165 موظفاً، وخفض المصاريف والرواتب المرتفعة لسائر الديبلوماسيين والموظفين المحليين.
الخارجية اللبنانية وعلى لسان وزيرها لفتت إلى أنّ حصة الوزارة في موازنة العام 2022 بلغت نحو 73 مليون دولار لتغطية نفقات البعثات الديبلوماسية في الخارج من رواتب وأجور وبدل تمثيل، فضلاً عن إيجارات الأبنية وصيانتها، غير أنّ الظروف الاقتصادية والمالية التي يعاني منها لبنان، دفعت الوزارة إلى اتخاذ قرار بصورة مستقلة عن سياسة الحكومة لعصر النفقات، وقد حقّق هذا القرار وفراً بنحو 14 مليون دولار سنوياً في العام 2022 فقط، بالاضافة إلى 8 ملايين دولار في العام الذي سبقه، ليصبح مجموع الوفر نحو 22 مليون دولار. أمّا بالنسبة الى الموظفين المحليين، فقد وصلت الميزانية إلى 28 مليوناً و750 ألف دولار، أي بانخفاض قدره 6 ملايين دولار عن العام 2021. كما شدّد على أنّ سياسة التخفيض مستمرة لجهة إيجارات المكاتب وسكن رؤساء البعثات، على الرغم من توفير حوالي مليونين و600 ألف دولار، بالاضافة إلى خفض كلفة صيانة أملاك الدولة حوالي 14 مليون دولار في العام المنصرم، أي بنسبة 75 في المئة للأبنية الادارية و73 في المئة للأبنية السكنية. وأشار الوزير إلى أنّ الوزارة لم يعد بإمكانها إقامة الاحتفالات الرسمية كما يلزم، من دون تصنيف هذه الاحتفالات على أنها باب للهدر.
سياسة التقشف هذه للحد من النفقات بدأت الدولة باعتمادها مع بعثاتها الديبلوماسية منذ حوالي العامين على إثر إتخاذ مصرف لبنان قراراً بوقف تحويل المبالغ المخصّصة للبعثات الديبلوماسية اللبنانية نتيجة شح احتياطات “المركزي” بالعملات الأجنبية المُتزامن مع تراجع إيرادات الحكومة اللبنانية، لتقوم معظم السفارات بخفض نفقاتها التشغيلية بمعدل 25 في المئة. فصعوبة تأمين العملة الأجنبية المطلوبة لتوفير متطلبات البعثات من سفارات وقنصليات في الخارج من جهة وانهيار قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار من جهة أخرى، كان لهما التأثير الأكبر على السلك الديبلوماسي اللبناني الذي يتقاضى معظم العاملين فيه رواتبهم ومخصصاتهم بالدولار الأميركي. كما أنّ العجز الحاصل في ميزانية الدولة جعل من الاجراءات التقشفية ضرورة للحفاظ على عمل البعثات الديبلوماسية وعدم الاضطرار إلى إقفال شامل للسفارات والقنصليات، مع الاشارة إلى أنّ سياسة التقشف المُستخدمة تضمّنت بدء العمل على مشروع إغلاق بعثات، وقد حُدّدت في المرحلة الأولى 12 بعثة من أصل 98 بعثة ديبلوماسية لبنانية، على أن يصل الوفر خلال 5 سنوات الى حوالي 21.4 مليون دولار.
وفي موازاة التقشف أو “عصر النفقات”، لجأت الوزارة إلى خطة زيادة الايرادات من خلال زيادة الرسوم القنصلية المستوفاة في البعثات اللبنانية في الخارج من 13 مليون دولار أميركي إلى نحو 20 مليون دولار أميركي، بحيث جاءت الزيادة لتمويل المصاريف المختلفة لـ15 بعثة تقريباً، على أن تُدفع التكاليف وتعويضات الصرف من هذه الرسوم، بالاضافة إلى الدور الذي يلعبه المغتربون اللبنانيون ومساهمة الانتشار اللبناني في دفع هذه التكاليف من خلال الرسوم وذلك من أجل ضمان استمرارية عمل البعثات في الخارج.
مع تجاوز الانهيار الخطوط الحمر كافة، لم ينجُ السلك الديبلوماسي من براثن الأزمة الاقتصادية والمالية التي ألقت بأعبائها الكارثية على مختلف سفاراته وقنصلياته وبعثاته في ظل العجز الدائم عن إيجاد الحلول الناجعة والصارمة ليرزح تحت وطأة التقشف تجنّباً لأي إقفال اضطراري. فعلى مدى سنوات، لعبت البعثات الديبلوماسية اللبنانية دوراً بارزاً ونموذجياً في رسم السياسات الخارجية للبلاد وفي توطيد العلاقات السياسية والتجارية ونسجها وتعزيز الحوار بين لبنان ومختلف الدول وفي تقديم الخدمات لما يقارب الـ 14 مليون لبناني مغترب ومنتشر. واليوم، تُهدّد الأزمة مقوًمات استمرار العمل الديبلوماسي مع ما يحمله هذا التهديد من خطر على أدائه وفاعليته في حال عدم اقتران قرارات التقشف والاستغناء والإقفال بدراسات واستراتيجيات دقيقة مبنيّة على معايير واضحة وشفافة أبرزها تقويم النفقات والواردات والقيمة الديبلوماسية من أجل تحديد مصير كل بعثة خارجية.
فعلى الرغم من أهميّة الحد من هدر المال العام وصرفه في المكان المناسب، إلاّ أنّه لا بد من تجنّب اللجوء إلى عشوائية القرار والعمل على تنظيم السلك الديبلوماسي وإعادة هيكلته، وبالتالي إغلاق السفارات أو القنصليات التي لا فائدة من وجودها والابقاء على المُجدية منها لا سيما تلك التي تحافظ على رفع اسم لبنان وإبقائه على الخريطة الديبلوماسية الدولية.