أضحى العالم مقسما بحكم الأمر الواقع إلى دول فقيرة متأخرة وأخرى غنية متقدمة، لكن دولا بعينها رفضت واقعها الأليم وغيرت مصيرها بمعجزة.
لا يتطلب الأمر ثروات طبيعية ضخمة أو موقع جغرافي مميز بقدر ما يتطلب الإرادة واستنباط نموذج اقتصادي هو الأصلح لظروف بلد ما من أجل التحول من الفقر إلى الرفاهية.
في التقرير التالي نستعرض معكم تجارب 6 دول لا تملك ثروات طبيعية هائلة وبعضها على أطراف العالم النائي، لكنها غيرت مصيرها من المعاناة والفقر إلى الرخاء والثروة عبر نماذج اقتصادية مختلفة حملت “بصمتها” الخاصة.
السويد.. النجاح من رحم المعاناة
قبل 100 عام من الآن وتحديدا فى منتصف القرن التاسع عشر وحتى عام 1930 كانت السويد إحدى الدول الإسكندنافية الواقعة في شمال أوروبا، تعيش سنوات عجاف أجبرت نحو 1.3 مليون سويدي على الرحيل للعيش في بلدان أخرى، وهو ما يمثل ربع عدد السكان آنذاك.
وبحلول عام 2012، أضحى دخل الفرد السويدى يتربع في المرتبة السابعة عالميا، وقام المنتدى الاقتصادى العالمى بتصنيف السويد كرابع دولة تنافسية فى العالم.
وتتلخص رحلة “النموذج السويدي” لقهر الفقر في تسوية تمت بين القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع المدني.
ولكي يتمكن “النموذج السويدي” من تحقيق “السهل الممتنع” استخدم 3 أساليب هي الحكم الرشيد، والابتكار والتجارة الحرة.
فى بداية القرن الماضي، تحولت السويد من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي، حيث تم تطوير اقتصاد يهدف إلى التصدير مع التركيز بشكل رئيسى على التجارة الخارجية.
بدأ ذلك مع تصدير المواد الخام الأساسية كالقطران والحديد والنحاس والخشب، إلى أن وصل فى الوقت الحاضر إلى تصدير المعرفة والأفكار المبتكرة.
وأصبحت السويد تمتلك الآن نحو 40 ألف شركة تصدر إلى الخارج وأكثر من نصف المنتجات المصنعة فى السويد يتم تصديرها إلى الخارج، وتمثل الصادرات 50% من الناتج المحلي الإجمالي السويدي.
معجزات الهند الاقتصادية
في التسعينيات كانت الهند مفلسة وأصبحت حاليا سادس أقوى اقتصاد في العالم رغم أن عدد سكانها يتجاوز المليار، ويتحدثون آلاف اللغات واللهجات، فهي ثاني أكبر البلدان ازدحاما بالسكان بعد الصين، وسابع أكبر البلدان من حيث المساحة الجغرافية.
عانت الهند من الحروب والاضطرابات ولكنها خرجت من الكساد لتحقق أسرع نمو اقتصادي في التاريخ الحديث.
والهند الواقعة في جنوب آسيا، هي حاليا ثاني أسرع الاقتصادات نمواً في العالم بعد الصين، ويتوقع وزير الشؤون الاقتصادي الهندي سوبهاش تشاندرا غارغ، أن يحتل الاقتصاد الهندي المرتبة الثالثة كأكبر اقتصاد على مستوى العالم بحلول عام 2030 مع وصول قيمة الناتج المحلي الإجمالي إلى 10 تريليونات دولار.
الأمر الذي يعني أن الهند تسعى لتجاوز مرتبة كل من المملكة المتحدة، واليابان، وألمانيا بحلول عام 2030. لتكون في المرتبة اللاحقة على الولايات المتحدة الأمريكية والصين فقط.
وهنا يطرح السؤال نفسه: كيف استيقظت الهند متأخرة ثم سبقت الجميع؟ وللإجابة على السؤال علينا التطرق إلى جزء من تاريخ الهند التي استقلت عن الاستعمار البريطاني عام 1947، لتنقسم إلى دولتين: الهند وباكستان.
ولكن لم تعرف الهند طعم الاستقرار طيلة عقود بعد الاستقلال، فقد شهدت نزاعات أهلية كثيرة، ودخلت في 3 حروب مع جارتها باكستان، كما حاربت الصين وهزمت أمامها عام 1962، إثر نزاع حدودي غرب جمال الهملايا.
الفيل النائم
بدأت الهند نهضتها الاقتصادية مبكرا على يد حاكمها نهرو، لكنها كانت نهضة خجولة اقتصرت على استثمار موارد الدولة في التصنيع لتلبية احتياجات السوق المحلية فقط، مع إهمال المنافسة العالمية في الأسواق الخارجية.
واستمرت هذه السياسات حتى تسعينات القرن الماضي على يد حكومات متعاقبة التزمت باتباع سياسات اشتراكية مغلقة تركز الاقتصاد بيد الدولة وتهمل القطاع الخاص ما جعل الدولة عاجزة عن الاستجابة للتطورات الاقتصادية وطبيعة الرأسمال الأجنبي والشركات العابرة للقارات، فبقيت الهند مغلقة على نفسها سابحة في عالم الفقراء.
وعام 1991 تعرضت الهند لهزتين كبيرتين سياسيا واقتصاديا، أيقذتا الفيل الهندي من سُباته بدلا من القضاء عليه، كانت الهزة الأولى عند اغتيال رئيس الوزراء راجيف غاندي، أصغر رئيس وزراء في تاريخ الهند، لتنتهي سلالة غاندي (الذي حكم الهند عام 1947) المؤهلة للحكم.
أما الهزة الثانية، ففي عام 1991 عندما استيقظت نيودلهي على أكبر أزمة اقتصادية في تاريخها، وتقلصت احتياطيات الدولة النقدية إلى أقل من مليار دولار، وتجاوز التضخم 17%، لترتفع معه أسعار السلع والخدمات لمعدلات جنونية، ليصبح إثنان من كل 5 هنود يعيشون تحت خط الفقر.
ورغم أن عام 1991 كان عام المصائب على الهند إلا أنه العام نفسه الذي قلب المحنة إلى منحة، ولحسن الحظ ظهر “مانموهان سينج” والذي يعرف بمهندس عملية الإصلاح الاقتصادي، وتخرج في جامعة أكسفورد وذو توجه لبيرالي رأسمالي.
ولجأ “مانموهان سينج” في حكومته إلى 3 من رجال الاقتصاد المتميزين وهم ناراسيما راو وزيرا للمالية، ووزير التجارة المتمرس في هارفارد “بالانبان تشيد امبارام”، وأيضا “مونتيك سنج اهلواليا” الرئيس المفوض للجنة التخطيط القومي، إنهم 3 أسماء حررت الاقتصاد وقادت مسيرة الانفتاح على العالم، وجلب الاستثمارات الأجنبية، من خلال رفع العوائق التجارية وكسر الاحتكارات الحكومية، وخفض الضرائب، وقضى على البيروقراطية وشجع المنافسة.
ماليزيا
في عام 1971 كشفت الحكومة الماليزية عن برنامج للإصلاح الاقتصادي سمته “سياسة اقتصادية جديدة” (NEP).
وفي السبعينيات شهدت ماليزيا أسرع توسع اقتصادي لها، حيث بلغ معدل النمو في ذلك العقد 7.9% سنوياً.
تزامن ذلك مع انخفاض أعداد أبناء الصيادين والمزارعين الذين لم يمتهنوا مهنة آبائهم منخفضة الأجر، وأصبح تراكم رأس المال ممكناً لأفراد الشعب العاديين بعد تحريرهم من الإقطاع الجائر.
أصبح هؤلاء الشباب بعد ذلك هم تروس الاقتصاد الحديث، وهاجروا إلى المدن بمعدلات غير مسبوقة، وقد أدى هذا التوسع الحضري إلى إنشاء مدن وتوسيع أخرى، من أجل تلبية احتياجات الطبقة المتوسطة الجديدة.
لم تكن الثروة فقط هي التي بدأت تتراكم خارج الدائرة الإقطاعية، فالأمر نفسه كان بالنسبة للسلطة السياسية، حيث كان “مهاتير محمد” أول رئيس وزراء لماليزيا لا تربطه صلة دم بالمحكمة الملكية.
في إطار هذا البرنامج أعادت الحكومة توزيع الثروة بين المجتمع وخاصة بين سكان الملايو محاولة استرضاء الفلاحين الغاضبين، وخلق طبقة متوسطة حضرية جديدة.
لكن السياسة الجديدة استغرقت بعض الوقت حتى نضجت، وكان هذا واضحاً بشكل كبير في جانب التعليم، حيث أدى التوسع السريع في التعليم الرسمي إلى خلق ما يكفي من المواهب لدعم الثورة الصناعية.
اضطلعت اليابان بدور مهم بالثورة الصناعية في ماليزيا، حيث إن البلاد تم هندستها حرفياً من خلال رأس المال والتكنولوجيا اليابانية في الثمانينيات والتسعينيات.
قدمت اليابان لماليزيا رأس المال والتكنولوجيا ولكن مصدر الإلهام كان هو النمور الآسيوية الأربعة (هونج كونج وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان) وهي البلدان التي أصبحت غنية بفضل تصدير السلع المصنعة إلى العالم.
بدأ التصنيع، وحولت ماليزيا تركيزها بشكل كامل إلى تصدير السلع المصنعة مثل مكيفات الهواء والثلاجات وأجهزة التلفاز وأجهزة الكمبيوتر، وذلك بدلاً من مجرد بيع المواد الخام مثل القصدير والمطاط.
وخلال الثمانينيات انطلق النمو بطريقة لم يسبق لها مثيل، واستمر الاقتصاد في التوسع بشكل أكبر حتى جاءت الأزمة الآسيوية المدمرة.
قهر الأزمة الآسيوية
في التسعينيات، وخلال التوسع الاقتصادي، اقترضت الشركات في جميع أنحاء آسيا بالعملات الأجنبية بكثافة، وفي بادئ الأمر كانت خدمة هذه الديون سهلة، ولكن لم يستمر هذا الأمر طويلاً.
بحلول منتصف عام 1997 تحطمت العملات المحلية في جنوب شرق آسيا، وهو ما زاد من أعباء الديون الواقعة على هذه الشركات، وبدأت بعضها في إعلان إفلاسها، وهو نفس الخطر الذي كان يهدد بلدانا عديدة.
انخفض سوق الأسهم الماليزية بنسبة 75%، وهبطت قيمة الرينجت بنحو 40% ملامسة أدنى مستوى لها في 24 عاماً، وأنفقت البلاد مليار دولار من احتياطياتها من النقد الأجنبي في محاولة لدعم العملة.
اقترح صندوق النقد الدولي على الحكومة الماليزية السماح للشركات المتضررة بإعلان إفلاسها، في مقابل حزمة من المساعدات الطارئة، واعتماد سياسة مالية تقشفية تهدف إلى تعزيز الرينجت، حيث إن الفكرة كانت هي أنه إذا ارتفعت قيمة الرينجت انخفضت أعباء الديون.
على النقيض مما فعلته بلدان أخرى متضررة مثل إندونيسيا والفلبين وكوريا الجنوبية، أدارت ماليزيا ظهرها لصندوق النقد الدولي، وقامت باتباع سياسات معاكسة لتوصيات الصندوق.
فيما بدا أنه نهج اقتصادي كينزي، قامت ماليزيا بفرض ضوابط على رأس المال، وقامت في ذلك الوقت بتثبيت سعر صرف الرينجت أمام الدولار عند 3.80 رينجت.
لكن بشكل عام، لم يكن الوضع في ماليزيا سيئاً كما كان هو الحال على سبيل المثال في تايلاند، حيث إن الشركات والبنوك الماليزية لم تكن مثقلة بكم هائل من الديون مثل نظرائها الإندونيسية والتايلاندية، والحكومة الماليزية أيضاً لم تهدر أموالها في الاستثمار في المشاريع العقارية مثلما حدث في تايلاند.
منذ نهاية الأزمة الآسيوية وحتى عام 2007، بلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لماليزيا 5.6% في المتوسط، وباعتبارها اقتصادا موجها للتصدير، كانت الصادرات الرئيسية للبلاد هي الإلكترونيات والآلات الكهربائية وزيت النخيل والمنتجات الكيماوية والنفط الخام.
تشيلي
قصة تشيلي من القصص المشهورة في النجاحات الاقتصادية، حيث خرجت الدولة الصغيرة من حكم ديكتاتوري في بداية التسعينيات، بلغت حينها نسبة من هم تحت خط الفقر 45%، ولم تزد حينها الطبقة المتوسطة عن 24% من الشعب.
وبعد أن تحولت البلد اقتصاديا، أصبح الفقراء أقل من 9% وزادت الطبقة المتوسطة لتصل إلى 65%.
وخلال ربع قرن، كان النمو السنوي في تشيلي من أعلى المعدلات في العالم. وكانت خطة الدولة للتحول الاقتصادي تعتمد على تحرير الاقتصاد والتجارة، وخفض الرسوم الجمركية، ولم تترك تشيلي اعتمادها على الموارد الطبيعية، بل على العكس فقد استفادت من ارتفاع أسعار النحاس.
وتمكنت تشيلي في عام 2010 من الانضمام إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، رغم كونها في أقصى العالم، ورغم أن الكثير من دول أمريكا الجنوبية شهدت هبوطا اقتصاديا في العقدين الأخيرين. ومنذ بداية التسعينيات وحتى زمن كورونا، لم تشهد تشيلي حالات ركود إلا في ثلاث سنوات فقط.
أستراليا
كانت أستراليا في الثمانينيات على حافة الانهيار الاقتصادي، وصرح وزير ماليتها في عام 1986 أن الدولة في طريقها لتكون إحدى دول العالم الثالث.
حينها اتخذت الدولة قرارات حاسمة بتعويم الدولار الأسترالي الذي أدى إلى انخفاضه ومن ثم زيادة تنافسية الصادرات الأسترالية. إضافة إلى حزمة من القرارات الاقتصادية مثل خفض الرسوم الجمركية وإعادة تنظيم المؤسسات الحكومية وزيادة شفافيتها.
وبعد هذه الإصلاحات التحولية، ومنذ عام 1991 لم تشهد أستراليا حالة ركود واحدة (وكورونا من ذلك استثناء) لتصبح أستراليا اليوم أحد أكبر الاقتصادات العالمية وبأقل نسب بطالة في العالم رغم كم المهاجرين الوافدين إليها.
كوريا الجنوبية
أما كوريا الجنوبية، وهي مضرب المثل في التحول الاقتصادي، فقد حولت مجراها التاريخي من بلد زراعي مليء بالفلاحين إلى بلد صناعي متطور يعتمد اعتمادا تاما على الصادرات التقنية.
وقد سبقت اليابان كوريا في هذه التجربة بتحولها إلى بلد يعتمد على الصناعات التقنية، وتلتهما من بعد ذلك الصين ولكن بنموذج اقتصادي مختلف.
بصمة “النموذج الاقتصادي”
ويلاحظ من قصص النجاحات الاقتصادية للدول اختلاف النماذج الاقتصادية المتبعة، فلم يسبق أحد تشيلي إلى نظامها الاقتصادي، ولم تستطع أي دولة حتى الآن تقليد النموذج الصيني، أو الكوري الجنوبي أو حتى السنغافوري.
والسبب في ذلك واضح، أن النموذج الاقتصادي مرتبط ارتباطا تاما بخصائص الدولة، فلا يمكن لدولة أن تقلد الصين في اكتساح الصناعة العالمية دون امتلاك الطاقة الاستيعابية المتمثلة في حجم الدولة وعدد السكان.
ولا يمكن لدولة تقليد النموذج الأسترالي دون كونها وجهة للمهاجرين من أنحاء العالم. كما لا تستطيع دولة أن تكون مزارا سياحيا صيفيا إن لم تملك الشواطئ أو الأجواء المناسبة.