جوني منيّر- الجمهورية
دَوّن المبعوث الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان على دفتره الملاحظات التي استخلصها من مروحة لقاءاته الواسعة، والتي شملت كل الاطراف السياسية اللبنانية، وأقفلَ حقيبته تحضيراً لكتابة تقريره للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والاتفاق على برنامج لقاءاته بممثلين عن الدول الخمس المعنية بالملف اللبناني قبل عودته الثانية الى لبنان في إطار مهمته الشائكة.
لم يكن لودريان يتوقّع أفضل ممّا سمعه من مختلف الاطراف، هو الذي كان تقويمه للمسؤولين اللبنانيين شديد السلبية. فحين كان وزيراً للخارجية هاجمَ اعضاء الطبقة السياسية اللبنانية واتهَمهم بوضع مصالحهم الخاصة قبل مصالح بلدهم. وأكملَ كلامه بتشبيه حزين للبنان الذي اعتبره كسفينة “التايتانيك” التي تغرق لكن من دون “أوركسترا”. ولا شك في ان لودريان، الذي غلب على أسئلته طابع اللياقة الديبلوماسية، عمل على محاولة وضع تَصوّر لطريقة جمع حطام سفينة “التايتانيك” اللبنانية في مهمته التي من المفترض أن لا تتجاوز مهلتها نهاية الصيف.
وكونه صاحب شعار “ساعدونا كي نستطيع مساعدتكم”، فهو عرضَ بكثيرٍ من الحذر المشكلات الكثيرة التي تشغل المجتمع الدولي، إضافة الى تَعَبه من المشكلات اللبنانية، ما يلزم اللبنانيين بإيجاد السبيل المطلوب للتخفيف من الاصطفاف الحاد الحاصل، خصوصا ان الوقت اصبح ضيقاً وهو يحمل مخاطر مرتفعة، وان نتائج الجلسة الانتخابية الاخيرة واضحة لجهة الدلالة على موازين القوى ما يَستوجِب ان يقترب كل فريق خطوة من الفريق المقابل.
ووفق هذه الصورة، فإنّ لودريان، العائِد في أواسط الشهر المقبل، سيحمل معه هذه المرة نقاشاً أكثر تفصيلاً استنادا الى محادثاته التي سيجريها مع الدول الخمس وفي طليعتها الولايات المتحدة الاميركية والسعودية. ولا شك في أن المبعوث الرئاسي الفرنسي كان قد وضع استراتيجية مدروسة لمهمته مع هَدفٍ من المُفترَض ان يتوصّل اليه لإتمام مهمته. فإذا كان يُسَلِّم بحُكم الامر الواقع الذهاب الى الخيار الثالث، الّا ان السؤال الاهم هو الثمن الذي يطلبه “حزب الله”. فالالحاح في الدعوة الى الحوار كسبيل وحيد للخروج من الازمة، هو ما فَسّرته العواصم المعنية بأنه للحصول على ثَمن سياسي داخل النظام السياسي اللبناني قبل الانخراط في المرحلة الجديدة. واذا كان تعديل اتفاق الطائف غير متوافر، فإنّ البديل قد يَتأمّن من خلال بروتوكول جديد يمنح “حزب الله” من خلال المواقع الشيعية صلاحيات جديدة، اي تطوير الممارسة لتطبيق الدستور من خلال الامر الواقع اذا كان ذلك غير متوافر على صعيد تعديل النصوص.
بعض المراقبين يرى ان “حزب الله” يريد ان يواكب المتغيرات الهائلة الحاصلة في المنطقة من خلال تكريس توازنات جديدة على مستوى السلطة في لبنان. لكن الهامش المُعطى للبنان لم يعد واسعاً، ما يستوجِب التأني في الخطوات السياسية الواجب اختيارها. ذلك ان الجميع يدرك جيدا أن المرحلة الحالية هي مرحلة تحولات اقليمية كبرى، وهو ما يتطلب استقراراً في لبنان لا العكس. ما يعني ان سقف العبث للفت الاهتمام غير مُرتفع بما فيه الكفاية. أضِف الى ذلك انّ استخدام لبنان مجدداً كمنصّة لتوجيه رسائل اقليمية لم يعد مطروحاً خلال المرحلة المقبلة، وهو ما يعزّز نظرية أخذ لبنان الى الاستقرار.
ووفق اوساط ديبلوماسية خبيرة فإنّ ثمة مقولة رائجة اقتنعت بها واشنطن دائماً وعملت بموجبها، وهي أنّ ايّ رئيس للجمهورية في لبنان يتم اختياره سيكون على تواصل وتعاون مع الاميركيين. وهذه القاعدة أثبتت صحتها طوال المراحل الماضية. ووفق الاوساط نفسها فإنه لا بد من اضافة ملحق الى هذه المقولة يَقضي بوجوب الاعتبار ايضا أن اي رئيس جديد للجمهورية سيكون على تواصل وتعاون مع “حزب الله” استناداً الى المعادلة التي تم ترسيخها خلال المراحل الماضية.
اضف الى ذلك المستجدات الاقليمية التي ستلفح لبنان بأجوائها الايجابية، وفي طليعتها الصيغة الجديدة للاتفاق حول ملف ايران النووي. ومنذ بضعة ايام كتب الخبير في ملفات الشرق الاوسط والموفد الرئاسي الاميركي السابق دينيس روس في صحيفة الـ”واشنطن بوست” عن قُرب ولادة هذا الاتفاق. ونَقلَ روس عن الرئيس السابق للجنة السياسية الخارجية والامن القومي في البرلمان الايراني بأنه تم التوصّل بالفعل الى تفاهمات غير مكتوبة تَقضي بإقناع ايران بتجميد المضي في تطوير برنامجها النووي، في مقابل غَضّ نظر واشنطن عن بعض صفقات النفط الايراني، والافراج عن بعض الارصدة الايرانية المجمدة. واعتبر روس ان موقف مرشد الثورة حول “المرونة البطولية” يشبه موقفه في العام 2015 قبيل توقيع الاتفاق النووي. كذلك، نقل روس عن مسؤولين اسرائيليين أن صفقة محدودة تلوح في الافق بين واشنطن وطهران. لكن الاكثر اهمية دعوة روس، وهو الذي ينتمي الى الحزب الديموقراطي والمعروف بصِلاته القوية بالادارة الحالية، إدارة بايدن الى تنظيم صفقة تقترِن بسياسة الوقاية لا الاحتواء التي طَبعَت الصفقة السابقة. والمقصود هنا عدم ترك الهامش اللاحق للاتفاق مفتوحاً امام ايران، خصوصا في المنطقة، انسجاماً مع سياسة الاحتواء التي لم يثبت نجاحها، وهو ما تتمسّك به اسرائيل وخصوم ايران الكُثُر في الشرق الاوسط. ولذلك يعتبر روس أن اعتماد سياسة لاحقة للاتفاق تكون اكثر رقابة وتشدداً مع التلويح بالقبضة العسكرية، سيؤدي الغاية من الاتفاق وكذلك تجنّب ارتفاع مخاطر الحرب مُستقبلاً. وخلال الاسابيع الماضية ارسل الجيش الاميركي تعزيزات عسكرية جوية اضافية الى شمال سوريا، هي كِناية عن طائرات متطورات من نوع F-22. صحيح ان العنوان المقصود بهذه التعزيزات هو القوات الروسية بعد الاحتكاكات العسكرية، الا ان بقاءها مع التقنيات المتطورة التي تحملها يُعَزّز حضور الردع العسكري الاميركي.
ومن افغانستان تفيد التقارير الواردة أن نمواً سريعاً يحصل للتيارات والتنظيمات المتطرفة والارهابية. ويُحكى مثلاً عن ثمانية آلاف عنصر لداعش – خراسان، وهو رقم كبير جداً قادِر على إلهاب البلدان المجاورة، اضافة الى نمو كبير لتنظيم “القاعدة” والذي يحظى برعاية حركة “طالبان” التي تُمسِك بالسلطة مع عدم إغفال المواجهة المحدودة التي حصلت عند الحدود مع ايران.
غالب الظن اّن مجموعة “الايغور” الموجودة في افغانستان تركّز على الوضع داخل الصين وكذلك التنظيمات الاخرى على جمهوريات آسيا الوسطى، لكن تبقى لإيران مساحة حدودية لا بأس بها مع افغانستان.
ومن المتغيرات التي تلفح الشرق الاوسط ما يُحكى عن رغبة اسرائيلية في تطوير حقل الغاز البحري قبالة ساحل غزة. وفي وقت التزَمَت فيه حركة “حماس” جانب الحياد خلال المواجهة الاسرائيليية مع حركة “الجهاد الاسلامي”، والتي استهدفت عمودها الفقري الميداني، تَردّدَ أن مصر تحمل مشروعاً يقضي بتخصيص “حماس” بعائدات لا بأس بها من هذا الغاز مقابل الدخول في هدنة طويلة الامد مع اسرائيل. وهو ما سيعزّز امكاناتها المالية ويجعلها قادرة على ازاحة السلطة الفلسطينية في مرحلة لاحقة، وان تكون بديلاً عنها.
وبغضّ النظر عن امكانية نجاح هذا المشروع وامكانية تطبيقه، الّا انه من الواضح ان ثمة خريطة واسعة يجري العمل على وضعها، وهو ما يستوجب حكماً استقراراً في لبنان وترسيخ معادلة آمنة تواكِب هذه التحديات التي ستسود السنوات اللاحقة. فالشمال السوري قريب ولبنان يشكّل باباً خلفياً له، وبحر غزة لا يبعد كثيراً عن بلوكات الغاز في لبنان والتداخل الاقليمي متعدد في الساحة اللبنانية وكذلك مخاطره. ما يعني انّ تثبيت الاستقرار الامني مهمة نجحَ في تأمينها الجيش اللبناني خلال السنوات الماضية، وهذا ما هو مطلوب منه خلال مرحلة السنوات المقبلة.
وفي الانتظار، سيعود لودريان ومعه حطام “التايتانيك” اللبناني، في سَعي لِجَمعه في التوقيت الاقليمي المناسب الذي سيسمح بالحوار المطلوب، والمقصود هنا الحوار الاميركي مع “حزب الله”.