لم يحدث أن أهين شعب في التاريخ، على يد حكامه، على يد سلطته، على يد سلطاته، مثلما أهين الشعب اللبناني. تاجروا بهذا الشعب الطفل المسكين، جعلوه ترسا لهم، جعلوه ذبيحة، جعلوه مصيدة، جعلوه والبلاد متجرا، جعلوه هدفا من أهدافهم، في كل أنواع التجارة. مزّقوه طوائف متناحرة، وقبائل متصارعة، وأقاليم، بينها بحار وجبال ووديان وصخور عنيدة.
جعلوا المناصب أملاكا عقارية، مزّقوا السلطات فيه، إلى خيم، إلى دكاكين عائلية. أداروا شؤون الناس، بأهوائهم، فما حفظوا ذمة لأحد، ولا حفظوا كرامة لأحد، ولا حافظوا على أموال أحد.
تسلموا أعلى المناصب في الدولة، وأبطلوا عملها، مزّقوها، عملوا ليلا ونهارا، على إلغاء عمل الإدارات المدنية.. عملوا جهارا ونهارا، على إلغاء المؤسسات التنظيمية، التي تحفظ للشعب حقوقه، التي تحفظ للشعب العدالة بين أبنائه، التي تحفظ للشعب المساواة بين أفراده.
طعنوا الديمقراطية، وإرتكبوا الجرائم العظمى بحقها. أبطلوا عمل المجالس والإدارات، بشتى أنواع الإحتيالات. فما كانوا يتورعون عن إختراع الأكاذيب، ولا عن تلفيق التهم، ولا عن صنع الدسائس والمؤامرات، ولا عن بيع البلاد والوطن، أشلاء، أشلاء.
إستباحوا كل شيء.. إستقدموا، بل إستجروا، كل أنواع النزوح، كل أنواع اللجوء.. من أمم الأرض قاطبة، جعلوها في أكنافهم، بعدما قبضوا أثمانها. قاموا بتهريب السلاح إلى البلاد. أقاموا التنظيمات الميليشياوية. أقاموا التنظيمات المسلحة. تواطؤوا مع جميع من كان له غرض قريب أو بعيد من لبنان، من كان يطمع فيه، من كان يريد فرط عقد أهله، فرط المؤسسات، لجرّ الفتنة إلى الساحات.
ألغوا الوطن السياحي الجميل، وعسكروه. عكّروا صفو الحياة فيه. عكّروا الأمن والأمان.. جعلوه متاريس وجبهات وخطوط تماس. جعلوه قلاعا وحصونا، وإعتداءات على الأملاك العامة، على أملاك الغائبين المهاجرين، على أملاك الغائبين قصرا، والمهجرين. زحفوا إلى الطرقات، إلى السكك، إلى الشطآن، إلى المشاعات إلى الوديان، إلى كل نهر، إلى كل تلة من التلال.. إستولوا كما اللصوص والزعار والشطار، على كل ما وصل إلى أيديهم، وما عادوا يتخلون عنه، ولو بحكم محكمة، أو بشهادات عدل، أو بأحكام قضاء، ولو كان صاحب إختصاص.
إستولوا على أجهزة الدولة كلها بلا إستثناء. لم يبقَ من جهاز في الدولة، إلا صار فريسة لهم. إنظروا معي، عدّوا على أصابع أيديكم، جميع المناصب المغتصبة، لهذا الفريق أو ذاك.. حدّثوني عن جهاز، ليس في خدمة المحاصصة. حدثوني، عن إدارة، ليست في خدمة المحاصصة. حدثوني عن موظف في الدولة، من أسفل الهرم، إلى أعلاه، ليس تابعا لولي نعمته، ليس تابعا لمن عيّنه بالواسطة، ليس تابعا، بالمطلق، لهذه الزبائنية المتحاصصة.
عملوا، ولا زالوا يعملون، عمل العصابات الجانحة، عمل العصابات الجائحة. فلم يسلم من أيديهم القذرة قانون، ولا سلم منها الدستور، ولا نجا منها الميثاق. خرقوا كل أنواع المعاهدات، وألغوا، بل أبطلوا كل أنواع الإنتخابات، وكل أنواع الإمتحانات.
خرقوا كل أنواع الإتفاقيات. سطوا على حرمة الدولة، صاروا حكاما، فوق الطاولات. ثم صاروا يتآمرون عليها، من تحت الطاولات. جلبوا إلى البلاد، جميع أنواع العساكر، جميع أنواع المرتزقة، جميع أنواع الإستخبارات. ترأسوا سرا جميع ألوان وأنواع وأنشطة العمالات، بلا إستثناء. ما خافوا على سمعتهم، ولا خافوا من إنهيار البلاد. كان همّهم الأول والأخير، جمع المال، بأي ثمن، وتوطيد النفوذ، وبسط سلطة التوحش، بلا وازع من ضمير، وبلا أي إحساس ولو بسيط، بكرامة الإنسان، بكرامة الأوطان، بكرامة البلاد.
تراهم كل يوم، يوجهون إهانة جديدة، إهانة مستحدثة، إهانة طازجة مستهدفة لنا، لهذا الشعب الطفل، لهذه البلاد الراعفة.. إستخفوا بالناس، إستخفوا بجميع انواع السلطات التي تحمي البلاد، التي تصون الإنجازات، التي تحافظ على الحقوق. صارت إهانة اللبنانيين عندهم، أهون الإهانات، أسهل الإهانات.. صارت إهانة اللبنانيين، «ضغثا على أبالة».
صارت عصاباتهم، تستطيع أن تلوي عنق البلاد، تستطيع أن تلوي جميع الأعناق. إستراحوا على مقاعدهم، بلا رئيس، بلا قانون، بلا دستور، بلا ميثاق، بلا حكومة، بلا إدارة، بلا وزارة، بلا مؤسسات.. صرفوا جميع أركان الدولة إلى بيوتهم، بحجة التقاعد، بحجة الإفلاس، وقدّموا أنفسهم بدائل عن الحكام، عن الرؤساء. قدّموا قراراتهم وتصاريحهم، بديلا عن كل ما تمثله الشرعية اللبنانية من أحكام. صاروا مكلفين فقط، بجمع أعظم الثروات، لهم، لأبنائهم، لجميع أفراد عائلاتهم.. ولو على حساب إهانة اللبنانيين، أمام جميع شعوب الأرض، أمام جميع الأمم، أمام الرأي العام، دون أن يقيموا لكل ذلك، أدنى إعتبار.
د. قصي الحسين – أستاذ في الجامعة اللبنانية
Follow Us: