كتبت صحيفة “الجمهورية”: سؤال يفرض نفسه مع بداية الشهر التاسع من الفراغ في رئاسة الجمهورية: هل سينضَم شهر تموز الجاري الى مسلسل الوقت الضائع المستمر منذ بداية تشرين الثاني 2022، أم انّه سيشهد تطوّرات تكسر حلقة التعطيل ويسلك معها الملف الرئاسي طريق الإنفراج وانتخاب رئيس للجمهوريّة؟
لا شيء في الأفق يَشي بانعطافة ايجابية، بل على العكس إنّ كلّ المؤشرات المحيطة بالملف الرئاسي وتعقيداته تَشي باستعدادات على كلّ المفاصل والجبهات السياسيّة، للتعايش مع فترة من الجمود حُبلى باحتمالات وسيناريوهات مجهولة، تمهّد لها إرادة التوتير والتصعيد الحاكمة لمواقف وتوجّهات قوى سياسية ثَبتَ بالملموس أنّها تعتاش على الفراغ وتهرب من الانخراط في أيّ مسار حواري أو تفاهمي يَستولِد رئيساً للجمهورية ويؤسّس لعودة انتظام الحياة السياسية في لبنان.
حضرَ الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان، كان الرهان أن تحقن جولته الملف الرئاسي بجرعة إنعاش للآمال في أن يتمكن من احداث خرق في جدار التعطيل، ولكنه غادر من دون أن يتبدّل في واقع الحال اللبناني شيء، وليس ما يؤشّر إلى تبدّل ولو طَفيف في المدى المنظور، وهو واقع يبقى فيه لبنان معلقاً على حبل التوتير والتصعيد، ويدخل في سباق قسري مع المجهول وما يُخبّئه من أحداث وربما صدمات.
جمود طويل الأمد
داخلياً، تبقى المراوحة السلبية هي العنوان الطاغي سياسيا ورئاسيا، والتواصل مقطوع بشكل نهائي بين المعنيين بالملف الرئاسي، ولغة التصعيد المتبادلة أعدمَت حظوظ اجراء حوار حول رئاسة الجمهورية لا الآن ولا في المدى المنظور. ما يعني انّ الملف الرئاسي محكوم بإقامة طويلة الامد في دائرة التعطيل.
هذه المراوحة تعبّر عن نفسها في الخواء السياسي الذي تدور فيه مواقف الاطراف المعنية بالملف الرئاسي في المربع ذاته، فعلى الرغم من انعدام الفرص امام مرشح التقاطعات جهاد ازعور، ما زالت بعض اطراف هذه التقاطعات تعتبره المخرج الأفضل لرئاسة الجمهورية، ويَتشارك في ذلك حزب “القوات اللبنانية” وبعض حلفائه مِمّن يسمّون أنفسهم سياديين ومستقلين وتغييريين، الذي سبق لهم أن انخَرطوا في التصويت السابق للنائب ميشال معوض، وبعض هؤلاء يواصلون زيارات خارجية توسّلاً لضغط خارجي دَعماً لمرشحهم. فيما انصرفَ التيار الوطني الحر الى البحث عن مرشح جديد، يحمل ما يعتبره البرنامج الذي يلاقي او يتقاطع مع برنامجه الرئاسي، من دون ان يعثر عليه حتى الآن. والامر نفسه ينطبق على الحزب التقدمي الاشتراكي الذي تؤكد مصادره لـ”الجمهورية” انّ “الخَيار الاسلم هو الجلوس على طاولة الحوار تَوصّلاً الى التوافق على مرشح لا يشكل استفزازا او تحديا لأي طرف، ومن دون ذلك سيبقى الملف الرئاسي في دائرة التجاذب والاخذ والرد التي لن نصل فيها الى اي نتيجة سوى إبقاء البلد عُرضة للمفاجآت وفي مهب الاوهام”.
الثنائي: الحوار
وفي المقابل لا يبدو ثنائي حركة “امل” و”حزب الله” انهما في وارد الاستجابة لأي طلب او دعوة ايّاً كان مصدرها للتخلّي عن دعم رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، وبحسب معلومات موثوقة لـ”الجمهورية” فإنّ الجانبين أبلغا اجوبة مباشرة وصريحة بذلك إلى بعض الموفدين، الذين سَعوا الى جسّ نبضهم حيال ما اذا كانوا قد يوافقون على خيار آخر، اذا ما سُدّت الآفاق امام المرشح الذي يدعمونه. حيث اكدا ان التزامهما بدعم فرنجية نهائي ولا رجعة عنه تحت اي ظرف.
واكدت مصادر الثنائي لـ”الجمهورية” انّ ثمة طرحا قديما قدّمه الفرنسيون ويقوم على مُعادَلة فرنجية رئيساً والسفير نواف سلام رئيسا للحكومة، ووافقنا عليه، هناك من يقول ان هذه المعادلة سقطت، ولكن حتى ولو صدق هذا السقوط، فذلك لا يغيّر في موقفنا، الثابت على ان انتخاب رئيس الجمهورية لا بد أن يتم وفق معادلة يكون فيها فرنجية رئيسا للجمهورية. وهذا ما قلناه للموفد الرئاسي الذي كان مُتفهّماً لهذا الموقف.
وفي موازاة تأكيد “الثنائي” على الحوار، دعا رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد الى الحوار والتفاهم من اجل انجاز الاستحقاق الرئاسي بأسرع وقت، معتبراً ان ذلك هو المعبر المُتاح وطنيا ودستوريا في ظل عدم تَمكّن اي فريق من ان يؤمّن وصول مرشحه بمعزل عن تعاون الفريق الآخر.
وفي كلمةٍ له في جبشيت، أوضحَ رعد انه “عندما ندعو الطرف الآخر الى الحوار انما ندعوه بموجب دستوري فضلاً عن الموجب الوطني والاخلاقي، في حين نواجه دائماً بالطعن في النوايا لتحميل دعوتنا ما لا تحمله، وذلك تضليلاً للرأي العام وافتراء علينا”.
وخلص الى القول: “من لا يريد الحوار، ماذا يريد؟ انه لا يريد رئيسا، بل فراغ يطول، واستقواء بأجنبي يتوهّم ان يدعم تَعَنّته”.
مُراوَحة
على أن هذه الفترة من الجمود والمراوحة تبدو طويلة الأمد، على ما يقول مرجع مسؤول لـ”الجمهورية”، وما يخشى منه في رأيه هو “أن يصطدم الداخل بوقائع غير محمودة النتائج على كلّ المستويات”.
ويُبدي المرجع عينه خوفا كبيرا على مصير البلد، ويقول: “مصير لبنان بات على المحك، فما من شك انّ حسم الملف الرئاسي بانتخاب رئيس للجمهورية يشكّل الوصفة العلاجيّة الوحيدة للأزمة الراهنة بكل تشعباتها، ولكن أخطر ما يَتهدّد واقعنا المأزوم هو أنّ المسألة ليست إمعاناً في تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية، بِقَدر ما هي دفعٌ من قبل بعض الاطراف إلى تفجير البلد وإحلال واقع كارثي يهدّد بنيته وكيانه ونسيجه الاجتماعي، والفلتان السياسي القائم، بدأت تتسرّب منه نُذر فلتان أوسَع قد لا يستثني المجال الامني، حيث انّ مختلف المناطق اللبنانية تعيش حالاً من القلق، ليس فقط من ارتفاع معدلات الجريمة بكلّ انواعها، بل من فلتان السلاح”.
وردّاً على سؤال عمّا يعنيه دَفع لبنان الى التفجير، اكتفى المرجع بالقول: “المسار القائم تتراكم فيه كل اسباب التفرقة، ونلاحِظ التَموضعات كيف تتمترَس خلف الجبهات. الوضع أشبَه ما يكون على حافة الهاوية، ولم يسبق لي أن كنتُ خائفاً على الطائف كما انا اليوم. ويُخطىء من يعتقد اننا اذا، لا سمح الله، بَلغنا لحظة الانهيار، فإنه يمكن لنا ان نقوم من جديد”.
الوضع تحت السيطرة
في هذه الاجواء اكد مرجع أمني لـ”الجمهورية” ان الوضع الامني في البلاد دقيق جدا على كل المستويات.
ولفتَ الى أربعة عوامل مؤثرة على الوضع الامني، أوّلها موضوع النازحين الذي بات يشكل عبئا كبيرا جدا لِتنامي الإرتكابات والاشكالات التي تحصل فيما بينهم، وكذلك مع محيط مخيماتهم وأماكن انتشارهم. وثانيها ملف الارهاب في ظل الخشية المُتزايدة من اعادة تنشيط وتحريك الخلايا الارهابية النائمة، وثالثها ملف فلتان العصابات والمخدرات الذي وَضعَ الجيش وسائر الاجهزة الامنية في مواجهاتٍ شِبه يومية معها، ورابعها وهو الاخطر، يتجلّى في الاشكالات التي تحصل في الكثير من المناطق وظهور السلاح بشكل عشوائي، وتؤدي الى قتلى وتوترات وتداعيات ذات طابع طائفي او مناطقي.
الا انّ المرجع عينه اكد ان الوضع بشكل عام ما يزال تحت السيطرة، والجيش وسائر الاجهزة الامنية في كامل الجهوزية والحضور للتصدي لأي طارىء ضمن الامكانات المُتاحة. وقال: “كل هذا الوضع مرهون بالوضع السياسي، فاستقرار الوضع سياسياً يُشعِر المواطن بالحد الادنى من الأمان، لا نقول انه يزيل كل الشوائب بكبسة زر، بل انّه يخفف العبء الاكبر منها ويساعد على احتواء ما تبقّى مهما كان حجمه او نوعه”.
لا مبادرات خارجية
اما على مستوى الحراك الخارجي تجاه لبنان، فقد شكلت زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان آخر محطاته العملية، وكما هو معلوم لم تصل الى اي نتيجة يبني عليها لودريان لإنجاح المرحلة الثانية من مهمته التي عَنونها بنيته تسهيل إجراء حوار بين اللبنانيين لإنضاج حل يُفضي الى انتخاب رئيس للجمهورية.
وعلى الرغم من سيل التكهنات التي سالت على سطح المشهد السياسي في الآونة الأخيرة، وافترَضَت حراكات مباشرة تجاه لبنان، لا سيما من قبل الفرنسيين والسعوديين، الا ان مصادر سياسية موثوقة اكدت لـ”الجمهورية” ان لا معلومات تؤكد وجود اي مبادرات خارجية في الوقت الراهن حول الملف الرئاسي في لبنان. فالاميركيون مُنكفئون عن هذا الملف، ولا حراك مباشرا او غير مباشر من قبلهم تجاه الملف الرئاسي. اما الجانب السعودي فكما هو معلوم، ليس في موقع الضغط المباشر على اي طرف داخلي، بل هو في موقع المُساعد والمُشجّع للبنانيين على انجاز استحقاقهم الرئاسي، الا انه ليس لدى المملكة اي خطة او مبادرة او برنامج تحرّك خاص تجاه لبنان، وما يُشاع عن تحرّك سعودي وشيك في هذا المجال لا يعدو اكثر من فرضيات في غير محلها.
اما الجانب الفرنسي، فأولويته حالياً هي الداخل الفرنسي، ولا شيء آخر أبعد من الحدود الفرنسية. وإذا كان لودريان قد اعلن خلال زيارته بيروت انه عازم على العودة الى بيروت خلال تموز الجاري، فإنّ المستويات السياسية في لبنان لن تتبلّغ حتى الآن ما يؤكد حصول الزيارة او العدول عنها، خصوصاً ان شكوكاً أُثيرَت حولها في الآونة الاخيرة ورجّحت عدول الموفد الرئاسي الفرنسي عن هذه الزيارة.
في هذه الاجواء، ابلغت مصادر فرنسية الى “الجمهورية” قولها انّ الاحداث التي تسارعت في باريس في الايام الاخيرة، من الطبيعي ان تفرض تعديلاً في اجندة الاولويات الفرنسية، التي تتصدرها اولوية مواجهة الاحداث التي شهدتها العاصمة الفرنسية وتداعياتها.
ولم تؤكد المصادر عودة لودريان الى بيروت في المدى المنظور، الا انها لفتت الى ان الملف اللبناني ما زال في قائمة الاولويات الفرنسية، الا انّ المستجدات التي شهدتها باريس، تتطلّب مقاربة حثيثة من الايليزيه والحكومة الفرنسية وصرف الجهد لاحتوائها، وترسيخ الامن والاستقرار في البلاد قبل اي امر آخر”.
بشري تودّع الضحيتَين
من جهة ثانية، ووسط إقفال عام وحداد، شَيّعت بلدة بشري امس في مأتم مهيب، الشابّين هيثم ومالك طوق بعد الصلاة على نفسَيهما في كنيسة السيدة في البلدة.
وخلال ترؤسه الجنّاز، دعا البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الى “ترسيم الحدود في منطقة القرنة السوداء وإنهاء الفتنة”، والى “كَشف الفاعل أو الفاعلين في جريمة قتل هيثم ومالك طوق والاقتصاص منهم”.
ولفت الى اننا “نؤمن بالدولة ونعرف حدودنا ونعرف القاتل، وهذه ليست مجرد حادثة”. واوضح انّ “شباب بشري يُعلنون دائماً استعدادهم للحل، ونحن جميعاً تحت سلطة القانون العادل”.
وشدد الراعي على أنّه “لو قام القضاء بعمله لَما كنّا وصلنا اليوم إلى مأساة القرنة السوداء”، مشيراً إلى أنّ “الخوف أن يستمرّ القضاء في تَخاذُله فيفلت المجرمون من يد العدالة، وسيُشَرّع ذلك الأبواب لشريعة الغاب”.
وقال: “نطالب بالعدالة في ترسيم الحدود وإنهاء هذه المسألة الشائكة وبقيام الدولة، ولطالما دافَعنا عن أرضنا وقَدّمنا الشهداء. ونحن مَن قاوَمنا كلّ محتلّ، نريد دولة تَبسط سلطتها بشكل كامل وشامل”.