يرصد الباحث المصري محمد السيد عيد في كتابه «فن السيرة وأثره في الرواية المصرية» سيرتين أدبيتين لتوفيق الحكيم (1898 – 1987)، فرغم أن إسهامه الأكبر كان في مجال المسرح الذي أرسى قواعده وواكب مدارسه المختلفة حتى استحقّ لقب «عميد المسرح العربي» فإنه أسهم كذلك في مجالي الرواية والسيرة الذاتية إسهاماً لافتاً.
ويرى المؤلف أن كتاب الحكيم «سجن العمر» بمثابة درة التاج في مؤلفاته، حيث يروي فيه، بلغةٍ شيقة ومسحةِ سخريةٍ، سيرة حياته. ومن خلاله نعرف أن أمه سكندرية من عائلة تسمى «البوغازية»، وهي عائلة أصولها تركية أو فارسية. أما والده فهو من أسرة فلاحين ميسورين من دمنهور. واهتمت تلك الأسرة بتعليم أبنائها ومنهم والد توفيق الحكيم الذي درس الحقوق مع أحمد لطفي السيد وإسماعيل صدقي وغيرهم من أعلام الفكر والسياسة في مصر وكان يسبق مصطفى كامل في الدراسة في نفس المدرسة العليا. ويعزو الحكيم عدم مشاركة والده في الحياة العامة مثل بقية زملائه إلى أن أمه كانت شديدة القلق على أمر معاشها ولم يكن والده يملك غير مرتبه، فاستطاعت بشخصيتها القوية العنيفة المسيطرة أن توّجه مصير زوجها وتتحكم في مسار حياته.
ورثت الأم بعض المال عن أسرتها وساعدها زوجها فاشترى لها «عزبة» ولأن المبلغ الذي تملكه لم يكن كافياً اقترضت من البنك لإكمال الثمن. واشترى الأب عربة حنطور يجرها جوادان بمبلغ عشرين جنيهاً واشترط على صاحب العربة أن يعمل لديه، فصار للأسرة عزبة وعربة خاصة. ويذكر الحكيم صراحةً أنه وصف هذه العربة بالتفصيل في روايته الشهيرة «عودة الروح».
حين وصل توفيق إلى المرحلة الثانوية كان لا بد أن ينتقل إلى الإسكندرية لأنه ليست في بلدهم مدرسة ثانوية. وهناك التحق بمدرسة رأس التين ومدرسة العباسية إلا أنه كان ضعيفاً في الرياضيات، وحدث أن زارهم عمٌّ له كان يعمل مدرس حساب بمدرسة خليل أغا بالقاهرة فاقترح العم أن يأتي توفيق معه إلى القاهرة ليقوّيه في الرياضيات، ووافق الأب وانتقل توفيق من الإسكندرية إلى القاهرة.
كان عمه يسكن في حي السيدة زينب، في شارع سلامة، لكنه لم يكن وحده، بل كان يسكن معه أخ له يدرس الهندسة وذهبت معهما أخت لهما فاتها قطار الزواج لتعنى بشؤون المنزل، كما ذهب معهما خادم ليساعدها، ثم انضم إليهم ابن عم لهم كان ضابط شرطة ووصل في سلك البوليس إلى منصب مأمور بندر مدينة شبين الكوم. وهكذا صار المسكن به خمسة ذكور وامرأة واحدة، وسنرى أن هؤلاء هم أنفسهم هم أبطال رواية «عودة الروح».
ويلفت المؤلف في كتابه الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب، أن من بين القصص الشعبية التي يرويها الحكيم في «سجن العمر» قصته مع مطربات الأفراح الشعبية أو «العوالم»، فقد تعرفت الأسرة حين كان بطلنا في الثامنة أو التاسعة على جماعة منهن ترأسهن امرأة تدعى «حميدة» جاءت لإحياء فرح عمه علي الذي كان يعمل ضابطاً في البوليس. وكانت «الأسطى حميدة» تنزل على الأسرة ضيفة كلما رحل أفرادها إلى الإسكندرية صيفاً. وكانت تشجّع توفيق على الغناء معها وشرعت تعلمه العزف على العود حتى استطاعت يده أن تُخرج نغمات منسّقة لولا أن والدته أوقفت هذا التوجه بحسم.
وتعد «عودة الروح» من أشهر روايات الحكيم التي تتكئ على سيرته الذاتية، وسماها بهذا الاسم ليقول إن ثورة 1919 بقيادة الزعيم الوطني سعد زغلول هي بمثابة عودة لروح مصر العظيمة، مصر الفرعونية، ومن ثم، يضع روايته في ضوء الحماس القومي المصاحب للثورة، والمعروف أنه كتبها عام 1927، والثورة لم تنطفئ جذوتها بعد.
في الرواية، تطالعنا شخصية العمة «زنوبة» التي يجب عليها أن ترعى الأسرة وهي عانس دميمة، يقطر لسانها بذاءة، كل همها البحث عن عريس، فهي تقرأ أوراق البخت لعلها تكشف لها عن عريس في الطريق. وتنفق ميزانية الأسرة التي تسمي نفسها بـ«الشعب» على أعمال السحر والتنجيم فلا يتبقى لـ«الشعب» سوى الطعام الرديء الرخيص. إنها تمثل السلطة لكنها سلطة جاهلة مستبدة.
أما العم الكبير «حنفي» فهو رئيس شرفي للعائلة وهو رجل عديم الشخصية، نائم طوال الوقت، وحين يصحو يتضح أنه بلا هيبة، ولا تختلف صورته في مرآة الرواية والواقع عن صورته التي قدمها الحكيم في «سجن العمر».
Follow Us:
الشرق الأوسط