جويل رياشي – الأنباء الكويتية
في مشهد مؤثر وغير مألوف، استجدى عميد متقاعد في الجيش اللبناني وظيفة ناطور على هواء أحد البرامج التلفزيونية المحلية مؤكدا انه مستعد أن يحمل قوارير الغاز وغالونات المياه لتأمين حاجات عائلته. وقد حظي مقطع الفيديو الذي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي بردود متناقضة استرجع بعضها «حياة العز» التي تمتع بها العمداء على مدى سنوات، من مرافقة أمنية وسيارات حتى للزوجات والعائلات، فيما تعاطف البعض الآخر مع الصرخة التي أطلقها العميد بعدما أصبح راتبه يساوي مائتي دولار أميركيا.
تتكرر حكاية المتقاعدين من السلك العسكري اللبناني: عمداء أنهوا فترة الخدمة القانونية المحددة بعمر 58 سنة، وأحيلوا على التقاعد ليبحثوا عن عمل أو لتأسيس عمل، يعينهم على مواجهة صعوبات اليوميات اللبنانية. لا يختلف الأمر بين سلك عسكري وآخر، او حتى بين أصحاب الرتب من ضباط وأفراد. الجميع تآكلت رواتبهم بفعل انهيار العملة الوطنية، فكان راتب العميد يناهز الستة ملايين ليرة لبنانية اي ما يعادل أربعة آلاف دولار، في حين لا يصل اليوم الى 500 دولار، على رغم تحسينات عدة على الرواتب أدخلتها المؤسسات العسكرية لمساعدة أفرادها. والحسابات عينها تنطبق على العسكريين، وإن كان جميعهم يستفيد من الطبابة المؤمنة بشكل شبه كامل للقوى المسلحة اللبنانية.
في المقابل، تغيب التقديمات الاجتماعية تدريجيا من مساعدات تعليم لأفراد أسر العسكريين سواء في المدارس أو الجامعات، وتكاد المنح لا تغطي لوازم القرطاسية للتلميذ. إشارة الى أن غالبية المنضمين الى القوى المسلحة اللبنانية من الأفراد من غير الضباط، يحددون مسبقا تأمين التغطية الصحية لهم بعد التقاعد بمرور سنين الخدمة القانونية (18 الى 21 سنة). وغالبا ما يزاول العسكريون مهنا خاصة، وإن كان السواد الأعظم منهم يعمل في الزراعة، أو يملك سيارات أجرة. يختلف الأمر عند الضباط، اذ يمضي هؤلاء سنوات خدمتهم في المؤسسات العسكرية دون مزاولة عمل آخر، وغالبيتهم من حملة شهادة الثانوية العامة. وقلة تتابع تحصيل شهادات جامعية، ذلك ان الدراسة في الكلية الحربية تأخذ من وقتهم الى حين تخرجهم برتبة ملازم، والالتحاق كل في قطعته بالخدمة على الأرض على مساحة الوطن.
ويروي عميد متقاعد حكايته التي تشبه حكايات رفاقه الذين سبقوه، بالبحث عن عمل. الغالبية أسست شركات تعنى بتقديم خدمات الأمن الخاص، وقلة انتزعت عقود عمل مع مؤسسات عززت أوضاعهم الاجتماعية على الصعيد المادي. ومن لم يؤسس شركة التحق بعمل له علاقة بالأمن مع مؤسسات خاصة كالمصارف، إلا أنه عانى أيضا من تآكل الرواتب. البعض ممن يملك مدخرات دخل شريكا في مطاعم، فيما آثر قسم لا بأس به فتح محل بيع مواد غذائية «بقالة»، كل حسب إمكاناته.
اما المحظوظ الذي استبق الأزمة بالمبادرة الى تحصيل دخل إضافي، فدخل شريكا في معارض تبيع السيارات المستوردة المستعملة، او في محلات تعنى بتحويل الأموال وتتبع شركات معروفة في هذا السياق. وقسم لا بأس به استثمر في البناء شريكا، او في تملك شقق في العاصمة بيروت والضواحي، ويعيش الآن من عائدات إيجارها بالدولار الأميركي، «الذي يجنبني العوز، ويكفيني مع راتب زوجتي في تحصيل قوتنا اليومي»، بحسب احدهم.
ويتحدث أحد الضباط العسكريين الشباب (بحسرة) عن غياب الحوافز وبينها تأمين قروض ميسرة بفوائد ضئيلة لتمكينهم من تملك وحدات سكنية. ويشير هنا الى زميل له عقد خطوبته على فتاة، لكنه ينتظر مساعدة والده لشراء شقة ليسكنا فيها. فيما لجأ البعض الآخر الى التفتيش عن مسكن بإيجار مقبول، يتمكن وشريكته من تسديده.
تبدلت كثيرا أحوال القوى العسكرية على الصعيد الاجتماعي، من دون ان يتراجع أداء أفرادها عما كان عليه قبل الانهيار. البعض يتفاءل بحلول غير بعيدة زمنيا، ويرى ان «البلاد لا تستطيع الاستمرار هكذا». ولا يخفي في المقابل، «ان المستقبل الذي كان مؤمنا في شكل كبير وقت الالتحاق بالقوى المسلحة، بضمان حياة كريمة بعد التقاعد، والاطمئنان الى الأوضاع المعيشية للعائلة في حال الاستشهاد في سبيل الوطن، لم يعد كذلك».