نبيل مملوك – لم تكن الكتابة في العصر الحديث مجرّد باب يأخذنا نحو التجديد أو الحالة المثيرة للجدل المسماة “حداثة” وبالطبع لم تكن الكتابة ولن تكون على الأرجح مقياسًا أو وحدة قياسيّة يسلّم لها الجميع ويؤمن بشكل معيّن لها، لكن الثابت أنّ تمظهرات الكتابة واضحة فبعض الأدباء والمفكّرين والفلاسفة وجدوها موضع إرهاق وبعضهم الآخر وجدها موضع حماية وبعضهم مات أو مارس حياته وبقيت لديه هاجسًا رماديًّا، ليكون السؤال، كيف أرهقتهم الكتابة وكيف استطاعوا بجملة أو سطر أو اقتباس أو عصارة أعمال التعبير بتكثيف عن إرهاقهم هذا، في الجزء الأول سنتطرق إلى الكتابة كموضوعة ترهقهم متخذين وضعيات مختلفة للكتابة من الفكر والشعر والرواية ليكون المفكّر السوري جورج طرابيشي (1939- 2016)، والروائي اللبناني جبّور الدويهي (1949-2021) والشاعر الفلسطيني محمود درويش (1941-2008).
جورج طرابيشي: صحوة الشلل
في مقاله الأخير الذي نشرته منصّة أثير العمانيّة ختم المفكّر السوري الراحل جورج طرابيشي محطّات حياته الستّ بالسطر التالي: إنّ شللي عن الكتابة، أنا الذي لم أفعل شيئا آخر في حياتي سوى أن أكتب، هو بمثابة موت، قد نقرأ في هذه “القفلة” كلّ ما أراد قوله صاحب سلسلة نقد نقد العقل العربي التي أصدرتها دار الساقي حول ثيمة الكتابة، وقد نخال للوهلة الأولى كقراءة أولى أنّ طرابيشي يرى في الكتابة ملجأ ومأمنًا لكن بعد قراءة ثانية لهذه العبارة المستقلّة الملخّصة لمشوار محفوف بالنقد والنقض والتأييد والتغيير أنّ كاتب هذه السطور يعبّر عن ضريبة تعلّقه بالكتابة، عن تفاجئه بالعجز كأنّنا أمام حبيبة غادرت سرير العشق فجأة تاركة حبيبها يصارع العتمة، هذا التصوير الرومانسي قد يكون غرائبيًّا تجاه مفكّر حرث العقل العربي وحاول زرع الحداثة فيه، لكنّ العبارة تفرض طفوليّتها وطفوليّة كاتبها الذي عانى في طفولته من أزمة العقيدة والاعتقاد والاعتناق وعانى في كبره ونضجه من وخزة الندم تجاه تصالحه المبدئي مع الجزء الأول من سلسلة نقد العقل العربي لغريمه التقليدي المفكّر المغربي الراحل محمّد عابد الجابري (1935-2010 )…
وبالتالي فإنّ طرابيشي الذي نفخ في سور عبارة المعرّي حين قال “العقلانيّة هي سلطة العقل فقط لا غير” (بتصرّف) وهي تناص فكري يحاكي ما أفصح عنه المعرّي ونسب له: “لا إمام سوى العقل” .
وما محاولة إثبات طرابيشي بعد مئات السنين ما بدأ به المعرّي عبر الكتابة، إلا خير دليل على أن الكتابة أرهقت طرابيشي وكبّلته بالشلل حتّى صحوته منها كاتبًا محطّاته الست تاركًا العالم وما فيه ليكون “أيّامي مع جورج طرابيشي” للمترجمة السوريّة وزوجة مترجم أعمال فرويد هنرييت عبّودي (1939-…) امتداد مبدئيّ لما لم يقله صاحب “العقل المستقيل في الإسلام”.
جبّور الدويهي: الكتابة من أجل الهويّة
بمعزل عن مقابلاته التي كان ينتظرها كثيرون من محبّيه وخصومه، وحواراته التي تجعل من محاوره جمهور من القرّاء، فإنّ الروائي اللبناني الرّاحل جبّور الدويهي (1949-2021) كان منذ مجموعته القصصيّة الأولى “الموت لأهل النعاس” وصولاً إلى روايته “سمّ في الهواء” حاول تعريف الكتابة رابطًا الهويّة وتشكّلها بتاريخ وأحداث باتت ماضية لكنّها راسخة، فالحرب الأهليّة التي تأصّلت في موضوعة شريد المنازل التي أصدرتها دار النهار ونشرتها بطبعة جديدة دار الساقي اتّخذت شكلاً كتابيًا ودعوة صريحة لمناقشة هذا الشكل من خلال الصفحة الأولى من الرواية حيث عرّف وبشكل مضمر الدويهي الكتابة السرديّة من خلال سرد الأحداث ورسم القرية أي المكان والظروف على أنّها تقنيّة مشهد وتقنيّة وقفة الأولى تجسّدت من خلال حفنة المشاعر التي أخرجها الدويهي عبر الوصف المؤثّر الرئيس على عمليّة التلقّي والوقفة المؤثّر الرئيس تجاه السرد الذي سيكون حتمًا مصحوبًا فيما بعد بحوار…
وأعماله اللاحقة كذلك كرواية طبعت في بيروت وروايته الأخيرة سمّ في الهواء حيث كانت الرواية أكبر من شكل أضيق من بحث… ما دفع سومر شحادة في جريدة العربي الجديد إلى كتابة مقال بعنوان: “الكتابة للاقتصاص من الحرب” أي التجرّد من الثيمة بحثًا عن التأويل والتعريف وإعادة الحفر… وبالتالي فإن تحوّل الحرب والهويّة كلازمتين تتناوبان على أعمال صاحب رواية “حي الأميركان” شكّل تعبًا للكاتب وقد يكون هذا التعب قد ترجم بشكل لاواعٍ في عنوان روايته الأخيرة التي صدرت قبل/ بعد رحيله بقليل “سمّ في الهواء” فالبحث عن السم في الرواية معقول لكن الاحتفاء بإيجاده لا يبدأ سوى حين نركّز على مشقّة الكتابة لدى الدويهي التي اتخذت موضوعاتيًّا طابعًا معنويًّا توكيديًّا.
محمود درويش.. أزمة جرح
كلّ أعمال الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش (1941-2008) الشعريّة تحديدًا تثبت أنّه شاعر كتابة وليس شاعر قضيّة، والحقّ أنّ قصيدتيه أحنّ إلى خبز أمّه وقصيدة “جواز السفر” اللتين غنّاهما الموسيقار والمغنّي اللبناني اليساري مارسيل خليفة (1950…) خير دليل على أن رمزيّة درويش وأسلوبه الرمزي أكبر من حصره في شعريّة القضيّة ومحدوديتها ولعلّ لفظة الجرح التي كرّرها في أكثر من قصيدة “وكان جرحي عنده معرضًا … لسائح يعشق جمع الصور” وفي الجدارية “جرح طفيف في ذراع الحاضر العبثي” وقصيدة حالة حصار “الكتابة جرو يجرح العدم … تجرح دون دم” وقبلها في حواره مع د.إيفانا مارشيليان المكتوب الذي حمل عنوان أنا الموقّع أدناه الذي نشرته دار الساقي حين سألته الأخيرة “كم من النساء جرحت فقال لها درويش ما جرحت إلّا نفسي” (بتصرّف)، بقي محمود درويش مسكون بجرحه، يهرب منه فيكتبه حتّى وفاته واختيار الروائي اللبناني إلياس خوري (1948-…) عنوان مجموعته الأخيرة التي نشرت بعد شاعر ريتّا عنوان لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي لاعتقاد قرّاء درويش أنّ شاعرهم يسكن الجرح وينزفه شعرًا حتّى بات يتأرجح في المعنى ما بين أزمة الجرح وصداقة خالدة.
لم تكن هذه النماذج رهائن للكتابة بقدر ما كانت أصدقاء لدودين لها… وكانت الكتابة أنثى ترهقهم لينسوا رفاهيّة الحياة ويكتبوا عبثيّة وجودهم…
فهل ستكون الكتابة دائمًا موضع إرهاق حتّى لو وجدها بعض الكتّاب والأدباء ملاذًا… الجواب سنحاول العثور على أطرافه في الجزء الثاني…