الجمعة, نوفمبر 22
Banner

لبنان في “غيبوبة” وسط مشهد سياحيّ “سورياليّ”… “الفجوة الطبقيّة تتنامى”

 بتول بزي – النهار

نصف ساعة استغرق الوصول من كورنيش المنارة إلى ساحة الشهداء بالسيارة، في مسافة لا تستلزم أكثر من 10 دقائق، بعدما باتت شوارع بيروت الرئيسية موقفاً عموميّاً يوميّاً، “يعتاد” الناس عليه، هذا الصيف. مَن يرى هذا المشهد يظنّ أنّ لبنان وعاصمته بألف خير. فالزحمة وليدة مقاهٍ ممتلئة بروّادها من أهل البلد وسوّاحه، فيما المشهد اللافت كان ما سُمّي بـ”الانفجار” البشريّ في حفلات فنّية ضخمة، الأسبوع الماضي، ناهيك عن المنتجعات “المفوّلة” بالحجوزات.

ماذا يجري في البلد حقّاً؟ كيف نُفسّر واقعاً اجتماعياً ونفسيّاً أقلّ ما يمكن وصفه بـ”الانفصام” بين لبنانَين؟ وكيف يعيش الناس في ظلّ لبنان غنيّ وآخر فقير، أو حتّى تحت خطّ الفقر أيضاً؟

على مدى 4 سنوات من الأزمة الاقتصادية، لم تتخلَّ فئة من اللبنانيين عن نمط استهلاكي عالي المستوى. حالة الترف هذه مشهورة في لبنان منذ عقود، فغالباً ما كان مواطنون يهتمّون بالمظهر الخارجيّ وأسلوب العيش على حساب النواحي العملية الأخرى من الحياة. لكن ما الذي أدّى إلى المبالغة في “الانفصال” عن الواقع في بعض المناطق، وعند شريحة معيّنة من الناس؟

السبب الرئيسي وراء ما نشهده اليوم من اكتظاظ في أماكن السهر والشوارع، هو تحويلات المغتربين بالدولار “الفريش”، التي تتدفّق شهريّاً وتستهدف فئة جيّدة من السكان، أضف إلى ذلك الحركة السياحية خلال هذَين الشهرَين، فالأماكن السياحية في لبنان “المدولرة” تُعَدّ رخيصة بالنسبة إلى المغتربين، أو مِمَّن يتقاضون رواتبهم بالدولار أيضاً داخل البلد، فيما يعجز ذوي الدخل بالليرة عن ارتيادها.

إلى ذلك، بات عدد أماكن السهر والحفلات اليوم أقلّ من السابق، وحتّى المطاعم التي افتُتحَت في الأزمة تُعَدّ سعتها متواضعة، فهذا ما يضاعف من اكتظاظ المشهد داخلها. أمّا على صعيد المهرجانات والحفلات الضخمة، فكان عددها سابقاً بالمئات وعلى مدى الأسبوع، من جونيه إلى جبيل وطرابلس وبيروت. أمّا اليوم، فتقتصر على مناطق معيّنة، ما قد قد يُفسّر مشهد الاكتظاظ، وسط غياب الحفلات الصغرى أيضاً التي كانت ملجأ لذوي الدخل المحدود، وقد لا تتعدّى تكلفتها الـ20 دولاراً آنذاك (30 ألف ليرة).

الواقع اللبنانيّ بالأرقام

في الأرقام، يعتبر الباحث في “الدوليّة للمعلومات” محمّد شمس الدين أنّ “التحويلات أدّت إلى انفجار ماليّ في لبنان، ولا أرقام دقيقة لحجمها شهرياً أو سنويّاً”، مؤكّداً أنّ “تقديرات صندوق النقد الدوليّ 6,5 ملايين دولار من التحويلات السنوية العام الماضي لا تُعتبر دقيقة، فمنهم من يُدخل “الفريش” دولار بالكاش إلى لبنان، وأعتقد أنّ هذا الرقم مضاعف نتيجة حركة الكاش، خصوصاً مع إعلان البنك الدوليّ أنّ 70 في المئة من الاقتصاد اللبنانيّ أصبح نقديّاً”.

لا يرى شمس الدين في المشهد الحاليّ “تناقضاً”، فالمجتمع اللبنانيّ بات مقسّماً إلى 3 فئات وفق رأيه: “نسبة 30 في المئة من الناس تتقاضى رواتبَ بالدولار أو تتلقّى تحويلات مالية من الخارج، وتستطيع ملء المنتجعات السياحية بهذا الشكل، لأنّ لبنان بلد صغير، و30 في المئة لا يستطيعون تأمين قوت يومهم. وبين هاتَين الفئتَين، نسبة 40 في المئة مِمّن يعيشون عند الحدّ الأدنى، وإن أصيبوا بأيّ عارض استدعى تكاليف صحّية إضافية، على سبيل المثال، سيلقَون مصير الفئة المعدومة ذاته”.

الانقسام العموديّ في أسلوب العيش اليوم يُهدّد وقوع البلد في “فجوة اجتماعية هائلة، فهناك اتّجاه إلى زيادة عدد الفقراء في لبنان وليس تقليصه”، بحسب شمس الدين، الذي يرى أنّ “الفئة المعدومة سيزداد وضعها صعوبة في العام المقبل، ويمكن أن تنضمّ إليها نسبة الـ40 في المئة التي تستطيع تأمين قوتها اليومي”.

صحيح أنّ التفاوت الطبقيّ ليس مقتصراً على لبنان، فيما نرى واقعاً مشابهاً في دول أخرى، إلّا أنّ هذه الحالة أضحت “حادّة جدّاً” داخل البلد، وبات لدينا شريحة عاجزة عن شراء حبّة دواء واحدة، مقابل من يستطيع صرف 100 مليون ليرة يوميّاً.

رأي اجتماعيّ

ثمّة ظاهرة شائعة مؤخّراً تتمثّل بسلوك استهلاكيّ “مريب” لدى فئة تتلقى تحويلات من الخارج للمساندة في الظروف الصعبة، فتنفق جزءاً من هذه الأموال بالدولار للسهر وزيارة المنتجعات عوض الاستفادة منها لفكّ جوانب الضائقة الماليّة والمعيشيّة، على اعتبار أنّه “مش تعبان بالمصاري”، وفق ما يرى الدكتور في علم الاجتماع شوقي عطيّة.

في حديثه لـ”النهار”، يتخوّف عطيّة من تعميق الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، وهذا ما “يُولّد حقداً طبقيّاً كبيراً بين الناس”، تماماً كالذي تجلّى في الحرب الأهلية، مع دخول الناس إلى الأوتيلات والوسط التجاريّ لنهب الممتلكات كـ”فشّة خلق”.

ضبابيّة الواقع وعدم استقراره يتطلّبان “مصالحة اجتماعيّة وإعادة الأمن الاجتماعيّ للمواطن” في المرحلة المقبلة، برأي عطيّة، “خصوصاً أنّ المؤسسات المعنيّة بإزالة التفاوت الطبقيّ، مثل الضمان الاجتماعيّ، أصبحت ميتة، ولم يَعُد هناك ما يحمينا من الخطر”.

ما نراه اليوم على “السوشيل ميديا” ينافي الحقيقة المُرّة بين أزقة بيوت الأحياء الفقيرة. ومن يراقب حركة الأسواق من الخارج، سيظنّ أنّ “الوضع عنّا بألف خير”، وفق قول عطيّة، الذي يضيف: “لا يفقه الآخرون حقيقة الواقع، فكم من عائلة تعاني الجوع اليوميّ، وتجهد لتسجيل أولادها في المدارس، ولا ننسى من يموتون أمام أبواب المستشفيات”.

لبنان في “غيبوبة”

لا يجد رئيس المجلس الاقتصاديّ والاجتماعيّ شارل عربيد توصيفاً لما يشهده لبنان اليوم أدقّ من “أنّنا نعيش في غيبوبة وواقع سورياليّ”، وسط مخاوف من “فقدان الحدّ الأدنى من العدالة الاجتماعيّة، نتيجة الوضع الاجتماعيّ الضاغط وغير الصحّي عند شرائح كبيرة، والتسرّب من المدارس، وتراجع التقديمات الاجتماعيّة”.

الحديث عن لبنانَين متناقضَين مرفوض بالنسبة إلى عربيد، لبنان الغنيّ والفقير، بل “نريد لبناناً واحداً بالمواطنة”، مطالباً بضرورة “معالجة الوضع الاجتماعيّ حتّى لا نخلق تشوّهات اجتماعيّة، وسط انبهار بحركة ظرفيّة في قطاعات محدودة، ويجب تعميم الفائدة على جميع القطاعات”.

هذه الحركة السياحيّة اللافتة في الصيف، والمدفوعة بالاغتراب، عزّزت اعتقاداً لدى عربيد أنّ لبنان بات يتحوّل تدريجيّاً إلى بلد ينتج 3 أشهر في السنة: شهرين في الصيف وشهرَ الأعياد نهاية العام، لكنّ الحركة السياحية “لا تكفي إطلاقاً لتأمين استدامة، بل نحن أمام نموّ ظرفيّ يتطلّب استقراراً وثقة لتطويره، ويجب تحقيق اقتصاد ينسحب على مبدأ التوزيع العادل”.

إذن، ما نشهده اليوم لا يعبّر عن واقع بلد “يحتضر” كثير من شعبه تحت ثقل أزمة اقتصاديّة كبرى وفاتورة استشفائية يعجز عن تسديدها إذا وقع طارئ، لا تُجمّلها مرحلة ظرفيّة ولا مشاهد احتفاليّة ضخمة أو نمط استهلاك مقنّع.

Leave A Reply