ترجّل الأديب السوري عبد الفتاح روّاس قلعة جي عن خشبة المسرح مع نهاية الأسبوع المنصرم، عن عمر ناهز 85 عاماً، بعد أن اشتهر وتعمّق في مجال كتابة النصوص المسرحية والبحث الأدبي، أكثر منه شاعراً أو محققاً تراثياً أو أديباً للأطفال، أو صحفياً عمل في إعداد البرامج في إذاعة مدينته حلب، كما كتب لها بعض الدراما الإذاعية.
ظل إبداع النص المسرحي هاجسه حتى آخر أيامه، وظل اشتغاله على التجريب وتأصيل النص المسرحي أحد أولويات شواغله الإبداعية.
تأصيل المسرح العربي
أصدر المسرحي الراحل أكثر من أربعين كتاباً، آخرها كانت 4 نصوص مسرحية، “فانتازيا الجنون” و “سيد الوقت” و”كفر سلام” و”سيرة مدينة” والتي صدرت في كتاب عن الهيئة العامة للمسرح في إمارة الشارقة.
وقبل ذلك صدر للراحل من المسرح الشعري “ترنيمة حب” “أغنية المسافر الوحيد” مسرحيتان عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وهي نصوص تؤكد ما انتمى إليه المسرحي الراحل منذ منذ سبعينات القرن الماضي، إذ كانت هناك حركة واسعة للتأصيل لمسرح عربي، وكان التراث من أهم موارد هذه الحركة بالإضافة إلى التاريخ والواقع والمأمول، ومرتكزات الوعي الجمالي العربي.
كان قلعة جي أحد هؤلاء الكتّاب المسرحيين الذين عزفوا على أوتار متعددة من التراث، ويلتقون في لحن واحد، هو التأصيل لمسرح عربي الهوية، لكن شمس التأصيل في نظر الراحل بدأت تغرب مع نهايات القرن الماضي، ومع سيادة العولمة واختراقاتها، والحداثة وما بعدها، المنقطعة عن الجذور، ومع احتلال المخرج ثم السينوغراف فالكريوغراف مكان المؤلف المسرحي وإزاحته عن الخشبة والدعوة إلى ” موت المؤلف” ومع سيادة ألوان من المسرح لا تعنى بالنص بل تقزمه وتلغيه كالمسرح الراقص والحركي ومسرح التعبير بالجسد بدلاً من الكلمة، مما أدى إلى عدم الاحتفاء أو اختفاء الموضوعات الوطنية والقومية وذات الخصوصية الاجتماعية في إرساء هوية عربية للمسرح.
عمق التجريب
كان ذلك دافعاً قوياً لكتابة المسرحي الراحل قلعة جي للمسرحيتين الشعريتين “ترنيمة حب” و”أغنية المسافر الوحيد” وهما تنتظمان في عمق التجريب على التراث، وصولاً إلى تأصيل هوية للمسرح العربي عامة والسوري خاصة، وهما تعالجان إحدى أكبر القيم الإنسانية وهي الحب الذي يكمن فيه سر استمرار الوجود البشري، وبالعشق “التجاذب بمصطلحه العلمي” يقوم نظام الكون كله.
سنوات الجمر
كما اهتمت نصوصه الصادرة عن الهيئة العامة للمسرح في الشارقة بالمعاناة والألم الإنساني وما يتعرض له الفكر المتنور من القهر والإلغاء وظلمات الحروب وقهرها وهي في النهاية دفاع عن الإنسان في أمنه وحريته وكرامته ولقمة عيشه.
وهذا ما اشتغلت عليه مسرحياته الأربع التي صدرت أخيراً في الشارقة قبل رحيله بفترة قصيرة، فتناولت مسرحية “فانتازيا الجنون” الإرهاب وفكره التخريبي، في حين تناولت مسرحية “سيد الوقت” الشهاب السهرودي وتعرض المسرحية حياة مؤسس الفكر الإشراقي السهرودي الذي حكم عليه بالموت في قلعة حلب، وتجسد المسرحية إدانة لما يتعرض له الفكر التنويري من ملاحقة وإبادة في التاريخ.
أمّا مسرحية “كفر سلام” فبطلها لاعب صندوق الدنيا يعود من جولته إلى قريته فيجد أنها مهدمة بالكامل وجثث أبنائها متناثرة نتيجة قصف وحشي فيقدم فصلاً جديداً يستعرض فيه سيلاً من الذكريات والشخصيات عن القرية وأهلها. وختام الكتاب بمسرحية “سيرة مدينة اسمها حلب.. سنوات الجمر والنار” وهي وفق وصف الراحل قلعة جي ملحمة حلب المسرحية الكبرى، تناول فيها ما شهدته حلب وما طاله فيها من معاناة شخصية حيث تهدم بيته وأصيب وخضع للعلاج لفترة طويلة فيبدأ النص بحكاية كاتب تحت القصف يبحث عن موضوع ما للكتابة، وفجأة تتجسد أمامه فتاة تعرف عن نفسها بأنها روح حلب الشهباء، وتقترح عليه أن يكتب سيرتها فتتوالى الأحداث المتقابلة بين الحاضر والتاريخ حتى آخر مشهد تجتمع فيه عناصر العرض لتشكل فسيفساء حلب السكانية، وتنشد أغنية المحبة لأقدم مدينة في العالم على وجه الأرض.
وتلك النصوص الأربعة تجسد اهتمام الراحل، وفق ما جاء على غلاف الكتاب، بالمضمون واللغة والكثافة الدرامية وتقنية الكتابة المشهدية.
شواغل صوفية
وعرف عن المبدع الراحل اهتمامه بعلاّمة حلب، فأصدر عنه “العلامة خير الدين الأسدي حياته وآثاره” وهو كتاب متوازن بالطرح وموثق وواقعي عن حياة الأسدي، الذي تعد بعض كتاباته في نظر بعض النقاد مهاد قصيدة النثر خاصة كتابه ” أغاني القبة” وهي نفحات من الشعر الصوفي المنثور، وهو صاحب كتاب موسوعة حلب المقارنة، وكتاب “يا ليل “، وكتاب “أحياء حلب”. كما اهتم الراحل بياقوتة حلب “عماد الدين النسيمي” الشاعر الأذربيجاني الذي انتهى به المطاف للعيش في حلب، فأصدر عن حياته وشعره كتاباً، وعن نهايته المأساوية. كما أصدر كتاباً عن الشاعر المتصوف جلال الدين الرومي.
إشارات
كان المسرحي الراحل عبد الفتاح قلعة جي، ضيفاً دائماً على معظم المهرجانات المسرحية السورية، وبعض المهرجانات العربية، وفي جعبته الكثير من الكتب التي لم نشر إليها، استحق على جهده الإبداعي الجائزة التقديرية عام 2015 التي تمنحها وزارة الثقافة السورية.
بتجرد
Follow Us: