القى وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى كلمةً اليوم في ندوة جرى عقدها في المكتبة الوطنية في قصر الصنائع تناولت مناقشة كتاب الاستاذ ناصر قنديل :”ثورة … مخاض أم متاهة ؟ – حسان دياب:حكومة فاشلة أم فرصة ضائعة ؟”.بحضور دياب وعدد من الفاعليات والشخصيات السياسية والثقافية
وقال المرتضى في كلمته:” .وبالحديث عن الخوف وما يحاك للصيغة والكيان، لا يمكنني الاّ أن أتوقف عند ما أدلى به مؤخّراً الرئيسُ الفخري لجامعة الكسليك، الأب الدكتور جورج حبيقة، وسبقه اليه قبلاً كلٌّ من ميشال شيحا في كتابه “فلسطين” والمفكّر الصهيوني مائير كاهانا؛ الأب الدكتور جورج حبيقة يؤكّد كما شيحا وكاهانا على أنّ اسرائيل سابقاً وراهناً، تعتبر أن لبنان المتنوّع يمثّل الصورةَ النقيضَ لها ومصدرَ خطرٍ على تركيبة كيانها ولذلك عملت وسوف تبقى تعمل على ازالة لبنان من خلال القضاء على الصيغة اللبنانية.”
وأضاف:”ونحن بدورنا، كوزارة ثقافة في الجمهورية اللبنانية، نؤكّد على الدوام أن مشكلتنا كلبنانيين مع اسرائيل لا تختصر في أنّ الأخيرة تمثّل الباطل الذي اغتصب ارض فلسطين، بل وأيضاً لأنّها تطمع في ارضنا وثرواتنا وتسعى للقضاء على وطننا لأنّه بتنوّعه وعيش المعيّة الذي يميّزه ويمثّل سببه الموجب يشكّل النقيض لعنصريتها ويسقط أخلاقياً ومعنوياً المبرّرات الواهية لاستمرار وجودها في فلسطين الحبيبة.”
وتابع المرتضى:”ولهذا ترى اسرائيل أنَّ لا رسوخ لها في هذه المنطقة الاّ بالقضاء على النموذج اللبناني الذي يناقضها.”
وأردف قائلًا:”نعم هذه هي اسرائيل، عدوٌّ متربّصٌ بلبنان، تستهدف هي ومن وراءها التنوّع والوجود المسيحي تحديداً، ولا يظنّن أحدٌ أنّها مجرّد مصادفةٍ استيلاد كل هذه الازمات في لبنان، والضخ الإعلامي الذي يرمي الى تيئيس المسيحيين وتخويفهم وحضّهم على الهجرة المتزامن مع ضخٍّ لتثبيت النزوح عندنا، إنّه مشروع اسرائيل ومشروع من يسعى الى ترسيخ وجود اسرائيل، إنّه استنساخٌ لمشروع دين براون وارسال البواخر في السبعينيات لحمل المسيحيين عليها الى بلادٍ أخرى بعد ايهامهم كما اليوم بأنّ النموذج اللبناني ميؤوسٌ منه وبأنّ المكوّن المسلم ينوي ابتلاعهم والغاء حضورهم وبأنّ عليهم أن يعمدوا إمّا الى السعي الى التقسيم تحت عناوين ملطّفة كالفدرلة أو الى الهجرة والتفتيش عن حياةٍ لهم في الغرب .”
ورأى وزير الثقافة ان التصدي لمشاريع الشرذمة هذه لا يكون :”الاّ بالوعي والوحدة الوطنية والإجماع على أن مصلحة الكلّ تفرض حفظ عيش المعيّة وطمأنة المكوّن المسيحي واجهاض المكائد الاسرائيلية وحفظ مقدّرات ردعها وأهمّها مقاومتنا الشريفة الأبيّة”
واضاف:”يأخذنا هذا الكتابُ في عالم الأدب السياسي إلى مقامِ برزخٍ بين الرواية والاستراتيجيا، إذ هو مزيجٌ منهما متداخلٌ جدًّا، يدركُ من يقرأه أن الكاتبَ يعتمد فيه تحليل القضايا الاستراتيجيةَ بأسلوبٍ روائي، وسردَ الوقائع اليومية بلغة التحليل الاستراتيجي، من غيرِ أن يخفي في التحليل والسرد كليهما انحيازَه إلى الفكر كمنارةٍ تضيءُ عملية القراءة والكتابة والإدراك.
إنه كتاب يبدأ فيه التشويق القصصي من علامتي الاستفهام المزروعةِ أُولاهما وسَطَ العنوان، والثانيةُ في آخره، بما يحتويان من طباقٍ بلاغي ومعرفيّ، لا يلبث أن يكشفَ الصورة الحقيقية لهذا الشعب المتنقل بين المخاض والمتاهة، ولهذا الوطن المحكوم عليه حتى الساعة بالفشلِ والضياع. فإذا مضى الأستاذ ناصر بالقارئِ إلى عمق لجج الكتاب، أجلسَه على مركبٍ بمجذافَينِ من أسبابٍ ونتائج، أو إذا شئتم من خلاصاتٍ فكريةً قائمةٍ على رؤية خاصة لسير الأحداث، واستنتاجات نابعةٍ من الربط المنطقي بين ما يجري في الداخل وتطورات السياسة الدولية. من هذا المنظور يصبحُ الكتابُ نصًّا غير مكتمل، حتى تتمَّ قراءتُه لا بمفرَدِ صفحاتِه، بل بإيحاءاتِه المبثوثةِ بين السطور، وحواشيه الدولية والإقليمية، وإن لم تُكْتَبْ فيه على وجهٍ صريح، وبهذا يصيرُ القارئ شريكًا لا في قراءة الكتاب فحسب بل في كتابته أيضًا.”
مستطردا:”وسبب التداخل بين الرواية والاستراتيجيا يعود في أساسه إلى أن لبنانَ قد يكون من بين دول العالم البلدَ الوحيدَ الذي تنعكسُ فيه عشرات المعطيات والأحداث والتقلبات العالمية، في السياسة والأمن والاقتصاد، وتترك على صفحة مائه طلاسمَ من حَراكٍ مدوٍّ، لا يُحْدثُ فرقًا في أغلب الأحيان، كأنه جَعجَعةٌ بلاِ طِحْنٍ كما يقولون، إلا ما كان من أمر انتصاره على الإرهابَين الصهيوني والتكفيري. وفي هذا الصدد يكفي أن نرصد في الكتاب عشرات المرّات التي تمّ فيها ذكرُ المقاومة وحزب الله لنستدلَّ مُستَدْرَجينَ بنباهةِ الربط المتقَن الى مجموعة من الوقائعِ المتداخلةِ معهما كمشروع الشرق الأوسط الجديد والملف النووي الإيراني ومفاهيم الطائفية والتكفير وانعكاسات ذلك كلِّه على النظام اللبناني الهش.”
ولأن أي حدث داخلي لا يخلو من تأثيرات الإقليم والعالم فيه، فقد حدا ذلك بالكاتب في مسار موقفه الفكري التحليلي إلى ما يشبه الالتزام بمَقولتَين أَوردهما في الكتاب: الأولى أن لبنان دولة لم تولد بعد، والثانية معادلة جورج نقاش “نَفيان لا يصنعانِ وطنًا”.
ولفت المرتضى الى ما جاء في سياق الكتاب :”إنه إذًا وطن لا يزال جنينًا قيدَ المخاض. سلطاتُه تعسرُ ولادتُها. وما تجربة حكومة الرئيس حسان دياب، التي هي محور الكتاب، إلا دليلٌ على ذلك، يشبه ما نمرُّ به اليوم وما مررنا به كثيرًا عبر تاريخنا الوطني. فدولة الرئيس دياب وُضِعَت حكومته بين مطرقة الإفلاس وسندان إصلاحات مفتَرَضة يعرف واضعوها أن الحصار الذي كانت معالمه قد بدأت بالظهور سيحول دون تطبيقها، وسيفضي ذلك إلى انهيار حتمي للدولة وتهشيم للنظام والكيان معًا. ولقد صوّب الأستاذ ناصر بدقة على هذه المسألة ملمِّحًا إلى أن دولًا غربية غَذَّتها عن سابق تصميم، تحضيرًا لانفجار الأوضاع الذي حصل في وجه الرئيس حسان دياب.
أَيتها السيدات والسادة،
يعيدنا الفصل الحادي عشر إلى ملاحظتي السابقة التي أشرتُ فيها إلى أن قراءة الكتاب إستِكمالٌ لما لم يُكتَب فيه. فهو فصلٌ يعقّد المعادلة ولا يلغيها، لأنه يسبغُ عليها قيمة مضافة تتمثلُ في أن هذا الفصل هو الكتاب جلُّه في الكتاب كلِّهِ. وفيه يظهر الرئيس الدكتور حسان دياب مُحاوِرًا للكاتب حول ديالِكتيَّةِ النجاح والفشل التي أرهقت الكاتب على حد تعبيره في بداية الفصل. ديالكتيّة لم يكن يُعيرُها دولة الرئيس أهمية تُذكَر لا إسقاطًا لأهميتها إنما لضيق الوقت والتباس المنهجية. ضيقُ الوقت لأنّ السلطة لا تحتمل التقييم إلا بعد انحسارها، والمنهجية لأن معايير رئيس حكومة أكاديمي تختلف عن معايير آخر من داخل النادي السياسي التقليدي. وقد أشار الأستاذ ناصر إلى ذلك بوضوح، وقد نتج عن ذلك كلِّه ضياعُ ال ٩٧ بالمئة من الإنجازات بين الأكاديمي من جهة والسياسي من جهة أخرى.
ويُنصِفُ الكاتب الرئيس حسان دياب بسؤاله: “ماذا لو” في الفصل الثاني عشر، قبل أن يُقِرَّ بِضياع الثورة وتركِها المواطنين في دوامة حلقة مفرغة “بين المتاهة التي لا نهاية لها، والمخاض الصعب والمؤلم لولادة وطنهم بصورة جديدة، يبنون فيه دولة تليق بآمال أبنائهم وحقوق أحفادهم بحياةٍ كريمة”. إنها الولادة التي يجب أن تصحح في ذاكرة اللبنانيين صورة الثورة التي بدأت من أجل الرغيف وانتهت إلى ألوانٍ شتى من التعصّب والضياع. هذه الولادة لا يمكن أن تتحقق إلا بالمُواطَنة وَمُثاقفة الدولة، أي الإيمانِ بها ثقافةً جامعةً للتنوع اللبناني لا مكانًا للزَّبائنية والخوفِ المفترض من فائض قوة هنا وتناقص قوة هناك، لأن الدولة لا تُبنى على الخوف ولا على التنصل تحت ذريعة خوفٍ لا مبرّر له على الإطلاق.
نحن أَيتها السيدات والسادة في مرحلة المخاض أو البرزخ الواقع بين الثورة والمتاهة على ما ورد في عنوان الكتاب. لكنه مخاضٌ عسرٌ شديدُ الآلام، لأنَّ كل شيء في لبنان مصنوع خارجه، ومربوط بالتسويات، ومرهون بالتفاهمات التي قد تتأخر فتطولُ المتاهة.
أتمنى عزيزي الأستاذ ناصر أن يكون حسن ظنك بالتغيرات العالمية والاقليمية على ما ذكرت تفاعليًّا تَساكُنِيًّا في بلدنا، أي بانِيًا لمزيد من الجسور بين لبنان ولبنان أولًا وبينه وبين عمقه الاستراتيجي. وحتى ذلك الحين نأمل، في غَمرةِ السباق بين الانفراج والانفجار، أن يتمعّن البعض جيدًا في مقولة كيسنجر “لبنان فائض جغرافي” لِنستدركَ ونتّعظ قبل طرح صِيَغٍ على الكيان والنظام تحقق هذه المقولة لا سمح الله فنحوِّل أنفسَنا إلى فائض تاريخي ضائع في الذاكرة.
ويا أستاذ ناصر
قلتَ إن ما يجبُ النقاشُ فيه هو المنهجُ لا جدولُ الأعمال، وهذا المنهجَ فلسفيٌّ بطبيعتِه لأنه يسعى إلى “بناء دولةٍ تساوي بين مواطنيها بعيدًا عن تمايزاتِ الأعراق والأديان، دون الوقوع في استبدال طائفية صريحة بطائفية تختفي خلف قناع الديموقراطية”. فأنت بهذا القول تعيدُ الاعتبارَ إلى دور الفكر في قيامِ الأوطان وفي قيامتِها من أزماتِها. دورٌ صرنا نفتقدُه في لبنان بعد تفشّي العصبيّاتُ القاتلة فيه تفشّيًا سريعًا مريعًا، بعيدًا عن العقل والمنطق، لا بل حتى بعيدًا عن مصلحة الوطن والمواطنين.
أدامك الله قنديلاً يستنار به في حُلْكةِ هذا الليل. والسلام. “