استحقتها الدولة وتهيّبت الحكومة من الآتي اليها حكماً آخر الشهر. فعلها حاكم مصرف لبنان بالانابة وسيم منصوري، ودفع تصلّبه واصراره على عدم السير بتمويل الدولة مجددا من دون قانون يجيز ذلك، برئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي الى الاستنجاد بسيد بكركي طالبا تدخله لاقناع الافرقاء المسيحيين بتأمين الغطاء للحكومة والمجلس النيابي لاقرار القوانين الطارئة التي حددها نواب حاكم مصرف لبنان للحكومة كشرط لاستمرارهم في مواقعهم وعدم الاستقالة والذهاب بالبلاد الى المجهول.
مصادر منصوري تؤكد ان لا مسايرة ولا “مسايسة” في الموقف. فالمبدئية تحتم عليه تطبيق القانون، وعدم السماح مجددا بالانخراط في تسويات تكررت أكثر من مرة وأثبتت عدم جدواها في ظل عدم وجود صدقية وثقة لدى السلطة السياسية… فالمؤمن لا يُلدغ من جحر واحد مرات.
وضع منصوري الجميع أمام مسؤولياتهم وأمام جدية قراره، بأن الرواتب والاجور لموظفي القطاع العام والمتقاعدين والمتعاقدين والقوى العسكرية ومعهم مصاريف الدولة وحاجاتها بالدولار، لن تكون تحت اي ظرف “اليد الموجعة” لمصرف لبنان. وهذه رسالة مباشرة لمن يستهوي الوساطات وصناعة التسويات ليفهم أن كرة الحل والدولارات المطلوبة موجودة عند الحكومة والمجلس النيابي وليست في حاكمية مصرف لبنان ولا منصة صيرفة، وأن القطاع العام له أب يصرف عليه (الدولة) من ماله او مما قد يستدينه قانونا، وليس مصرف لبنان المؤتمن على ما تبقّى من اموال المودعين.
مصادر الحاكمية تؤكد التزامها مندرجات المادة 70 من قانون النقد والتسليف التي تنص على مسؤولية مصرف لبنان في المحافظة على النقد لتأمين اساس نمو اقتصادي واجتماعي دائم، وهو التزام قانوني وأدبي لا جدال فيه ولا انكفاء أو تمنّع عن تطبيقه. لكن الافراط بالاستناد الى هذه المادة سابقا من دون اعادة الاموال أو اجراء اصلاحات كفيلة بوقف امتصاص دولارات البنك المركزي ادى الى ما ادى اليه من فجوة تحتاج الى سنوات طويلة لردمها. من هنا تحرص أوساط منصوري ونواب الحاكم على رفع البطاقة الحمراء في وجه الدولة وعدم السماح لها مجددا بابتزاز مصرف لبنان بعنوان الامن الاجتماعي من دون ان تقدِم على السير بما مطلوب منها من اصلاحات وتثبيت التعهدات بإعادة الاموال الى “المركزي”.
وتجدد مصادر منصوري أنه على رغم الاعتراضات داخل المجلس المركزي على تمويل الدولة والصرف من التوظيفات الالزامية، بيد انه كانت لدى الحاكم الصلاحية لتسهيل أمور الدولة. واليوم انتقلت مهام الحاكمية الى منصوري، وتاليا لن يتصرف خارج قناعته، والاهم انه لن يخالف القانون ولن يوقّع على صرف أموال المودعين التي هي بمثابة الامانة في مصرف لبنان.
من هنا كان تشديد منصوري على ضرورة توصل الحكومة الى آلية تقضي بإقرار تشريع يجيز الاقتراض لدعم الدواء وتأمين الرواتب للقطاع العام. لكن المشكلة التي يدركها منصوري جيدا هي صعوبة رد الاموال الى مصرف لبنان من دون إقرار الاصلاحات (اقرار موازنة 2023، الكابيتال كونترول، اعادة هيكلة المصارف)، علما أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وعد مرارا بمشروع قانون لتسهيل تمويل الدولة، لكن المفاجأة كانت بعدم الاتفاق على مشروع قانون. على كل، هذا الامر وفق المصادر “نترك معالجته للمعنيين، خصوصا أنه ليس من مسؤولية البنك المركزي. فثمة مداخيل للدولة بالدولار، وتاليا يمكنها وضع الاولويات للانفاق، وفي حال لم تكفِ الاموال ثمة حلول مشروطة باقرار الاصلاحات”. اما اذا راوحت الامور مكانها، فتؤكد المصادر “سنصل الى مكان لا يحمد عقباه، وتاليا لا يمكن دفع اي مبلغ للأدوية ولا الرواتب ولا حتى تمويل استيراد القمح”.
وتضع المصادر نصب عينيها المحافظة على أموال المودعين، وإن كان ثمة استثناءات. فالمادة 70 من قانون النقد والتسليف، تؤكد الزامية مصرف لبنان بالمحافظة على الاستقرار والامن الاجتماعي، وتاليا “لا مانع لدينا بالتمويل شرط وضع الآلية لرد الاموال، وهذه الآلية ممكنة في حال أجريت الاصلاحات جميعها”.
وشرحت المصادر أن اقرار قانون “الكابيتال كونترول” يمكّن المودعين من سحب 800 دولار بدل 300، علما أنه بعد اقرار هيكلة المصارف يمكن معرفة المصارف القادرة على الالتزام وتلك الغير قادرة على تسديد متطلبات “الكابيتال كونترول”. وهذه المبالغ برأي المصادر “تحرك السوق من دون اضطرار مصرف لبنان الى التدخل”.
وفي الانتظار تؤكد المصادر عينها أن “الحاكم بالانابة يقوم بالمطلوب منه عبر تأمين الاستقرار النقدي من دون المسّ بالاحتياط، وهذا وعد قطعه منصوري على نفسه، وحاليا يعكف على اجراء التدقيق في المصرف المركزي على ان تُنشر الارقام على موقع مصرف لبنان الالكتروني فور انجازها الاسبوع المقبل، مع التأكيد على ان الاحتياط لن ينخفض سنتا واحدا، وأنه يمكن محاسبته على كل سنت صُرف بدءا من أول آب”.
مصرف لبنان أدى قسطه للدولة؟
مسؤولية تأمين الايرادات لدفع مصاريف الدولة ونفقاتها تقع على عاتق السلطة التنفيذية وليس على عاتق مصرف لبنان، وفق الخبير المصرفي والمالي نسيب غبريل، وتاليا فإن مصرف لبنان أدى قسطه للدولة، ويجب أن تنتهي مهمته في هذا الاطار عند هذا الحد. ويعتبر ان ما يقال عن أن تسليف مصرف لبنان لن يكون إلا تحت سقف القانون، “يضع علامات استفهام، فنائب رئيس مجلس الوزراء قال حرفيا ان ليس لدى الحكومة إمكانات لردّ الاموال بعد 18 شهرا أو أي مهلة زمنية كانت”.
ويستند غبريل الى ميزانية مصرف لبنان في آخر شهر تموز، ليلاحظ أن الإحتياطات بالعملات الأجنبية وصلت الى 8 مليارات و760 مليون دولار نهاية تموز بتراجع مليار و400 مليون دولار في أول 7 أشهر من سنة 2023، اي بتراجع نسبته 13،7%، بينها 608 ملايين دولار في آخر أسبوعين من شهر تموز. هذه الوتيرة برأي غبريل “لا يمكن أن يتحملها مصرف لبنان، كونها ستؤدي الى استنزاف الإحتياط. مع الاخذ في الاعتبار ان مهمتَي مصرف لبنان الأساسيتين تتلخصان بالمحافظة على الاستقرار النقدي أي السياسة النقدية وسياسة القطع، وثانيا تنظيم القطاع المصرفي، وتاليا ليست مهمته تحمّل أعباء السلطة التّنفيذية والسلطة التشريعية بتاتا”، مذكرا بأنه “منذ بدايات الأزمة أصبح مصرف لبنان المؤسسة المدنية الرسمية الوحيدة التي تستطيع اتخاذ القرارات في ظل الخلافات، إن كان داخل الحكومة أو مجلس النواب”.
وقال: “لا يمكن أن تقع كل هذه الأعباء على عاتق السلطة النقدية وحدها، خصوصا في ظل الشغور الرئاسي وتحوّل مجلس النواب الى هيئة ناخبة غير مخوّلة تشريع القوانين الإصلاحية.
من ناحية أخرى، أصبحت الحكومة منذ أكثر من 14 شهرا في حالة تصريف اعمال، ولا يمكنها إتخاذ القرارات. ولكن هذا لا يعني أن تنهال الطلبات على السلطة النقدية”. وشدد على “اهمية المجلس المركزي لمصرف لبنان ودوره، وكذلك حاكم مصرف لبنان، مع اهمية المحافظة على استقلالية المصرف المركزي وعدم التفريط بأي مبلغ من الإحتياط الإلزامي بالعملات الأجنبية الذي لاحظنا تراجعه بما يساوي 600 مليون دولار في آخر أسبوعين من تموز”.
وإذ أكد غبريل أهمية دفع رواتب القطاع العام وتأمين الادوية وغيرها من الامور الحياتية الضرورية، قال: “لا يمكن الإتكال أكثر على مصرف لبنان من دون اقرار الاصلاحات. مع التأكيد أنه ليس من مهمة “المركزي” تمويل الدولة وتسديد عجز الدولة”. ولفت الى أن “على الدولة أن تؤمن مصادر الإيرادات وإعادة هيكلة القطاع العام، خصوصا أن ثمة 90 مؤسسة عامة وهيئة عامة على الأقل يجب دمجها أو إغلاقها. وهذا هو الوقت المناسب للقيام بإعادة هيكلة القطاع العام، وخفض النفقات وزيادة الإيرادات من خلال اللجوء إلى مصادر الخزينة التي لا تزال مهملة حتى اليوم”.
سلوى بعلبكي – النهار