فيما كان المشهد العام في البلد يميل الى استقرارٍ ظاهري دفعَ البعض الى التفاؤل، في ظل موسم سياحي «والِع»، تَبدّل المشهد فجأة، وراح يميل نحو مخاطر دفعت الى الاعتقاد بأنّ البلد اقترب مما يتوافق البعض على تسميته الارتطام الكبير. فما الذي جرى لتبرير مثل هذه المخاوف؟
لا يمكن فصل المشهد الاقتصادي والمالي عن المشهد السياسي العام. ولا شك في ان «الرسالة» التي وجّهتها سفارات دول عربية وأجنبية من خلال الطلب الى رعاياها بمغادرة لبنان، كانت المؤشر الاخطر من كل المؤشرات الاقتصادية والمالية التي توالت في الايام القليلة الماضية. كذلك، فإنّ مؤشرات الخلاف بين حكومة تصريف الاعمال والمجلس النيابي في شأن تقاذف كرة النار، ورفض المؤسستين تحمّل مسؤولية تشريع الانفاق من اموال المودعين، جاءت في المرتبة الثانية من حيث الخطورة، لا سيما ان تداعياتها، في حال لم تعالج، تتجاوز مسألة تنظيم الاقتراض من مصرف لبنان، لسد حاجات الدولة.
وفي المقلب المالي، يمكن رصد المعطيات التالية، والتي تساهم في ضبابية المشهد، وترفع منسوب القلق حيال ما ينتظر البلد في المرحلة المقبلة.
أولاً – في موضوع العلاقة بين الدولة ومصرفها المركزي، بلغت الامور نقطة حساسة، لا سيما ان تشريع مدّ اليد على ما تبقّى من اموال المودعين ليس بالمسألة السهلة. رئيس حكومة تصريف الاعمال استهوَل الامر، وحاول التملّص، فوقعت الواقعة، واصبح تشريع الاقتراض صعباً. وفي الموازاة، لا يبدو ان القائم مقام الحاكم وسيم منصوري، ونواب الحاكم، على استعداد لتحمّل وزر الانفاق من دون تغطية.
ماذا يمكن ان يحصل في حال استمر المأزق، ولم ينجح وزير المالية، المُكلف من قبل ميقاتي بمهمة استنباط حلول سحرية للمشكلة في هذه المهمة؟
في السيناريوهات المطروحة، أن يصرّ نواب الحاكم على وقف تمويل الدولة، وستظهر ازمات كثيرة، ليس اقلها ما يتعلق بالادوية وحاجات الجيش والقوى الامنية. ومن المفارقات ان ازمة من هذا النوع تندلع بالتزامن مع التطلّع الى الجيش، لحماية امن البلد، ومنع امتداد نيران مخيم عين الحلوة الى خارجه. السيناريو الآخر المطروح، ان يستقيل منصوري مع بقية زملائه، ومن ثم يعمدون الى الانفاق وفق قاعدة انهم سجلوا رفضهم، وانهم باتوا يديرون المرفق العام مؤقتا، ووفق السياسة التي ترسمها الدولة.
الامر المنطقي الوحيد المستبعد في السيناريوهات المطروحة، هو ان تحزم الدولة امرها، وتعمد الى تصحيح ماليتها من خلال تزخيم الجباية وفتح الصناديق المغلقة، والتي تشكل بوابة تحسين الايرادات، وضبط التهرّب والتهريب، للاستغناء عن مشروع الاستيلاء على اموال الناس الموجودة في المركزي.
النقطة الثانية التي أمكن تسجيلها في الايام الاخيرة تتعلق بالـ600 مليون دولار الضائعة في حسابات مصرف لبنان، كما تبين في النشرة الاخيرة لميزانية المركزي. اين ذهب هذا المبلغ، والذي أدّى الى انخفاض الاحتياطي الالزامي من 9.3 مليارات دولار الى 8.7 مليارات دولار دفعة واحدة؟ هناك تحليلات واجتهادات كثيرة في تفسير اختفاء هذا المبلغ فجأة في الاسبوعين الاخيرين قبل نهاية ولاية رياض سلامة، ولكن النتيجة واحدة، وهي ضياع مبلغ اضافي من اموال المودعين. وهنا، ينبغي ان يبادر منصوري الى توضيح هذا الامر. ومن حق اللبنانيين ان يعرفوا ماذا حصل، وبالتالي، ولا بد من نشر بيان يوضح بالتفصيل كيفية انفاق هذا المبلغ.
ولعلّ المؤشر الأقل اهمية يتعلق بخفض وكالة فيتش التصنيف الائتماني للبنان في ما خصّ العملة المحلية، ونقل مرتبته من (cc) الى متوقف عن الدفع (مرتبة الافلاس). هذا التصنيف يزيد في تعميق سوداوية سمعة البلد، ويعني عملياً ان الدولة باتت عاجزة، بنظر وكالات التصنيف الائتماني، عن دفع قروضها بالعملة المحلية، وليس فقط بالعملات الاجنبية. وهذا الامر يرتبط بتعاطي الدولة بخفة مع ديونها بالليرة، والايحاء بأن لا نية لديها لدفع الديون، بدليل انها أوقفت دفع الفوائد المستحقة على هذا الدين.
في كل الاحوال، لا تُبدي الدولة اية نية او قدرة على تسديد اي نوع من انواع الديون. وحتى الاقتراض بالقوة من اموال المودعين، هو موضع شك واكثر، في امكانية تسديده، وهذا الامر عبّر عنه بوضوح نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي.
هذه المؤشرات معطوفة على المعطيات الامنية والسياسية، توحي بأن الخطر الكبير يدق على الباب، وانّ البلد اقترب من الخط الأحمر للانهيار الشامل الذي قد يطيح كل الثوابت التي لا تزال قائمة حتى اليوم، إلاّ اذا تبدلت الظروف والمعطيات وأفرزت ما يشبه الاعجوبة التي ينتظرها اللبنانيون بلا نتيجة حتى الآن.
أنطوان فرح – الجمهورية