لم يتعلّم حزب الكتائب من الماضي. حزب الحرب الأهلية وانتهاز الفرص لافتعال القلاقل والفتن، أصرّ أول من أمس على تذكير اللبنانيين بالقتل على الهويّة. اختار الكتائبيون الكحّالة، بكوعها ورمزيته، حيث قُتل مئات الأبرياء قنصاً وإعداماً، واختفى غيرهم، على بعد أمتار من مكتبهم الشهير، ليعيدوا تمثيل المشهد.
لا يكاد يمرّ يوم، إلّا وتسقط شاحنة على كوع الكحّالة. إلا هذه الشاحنة وهويتها، استدعتا استنفاراً في مكتب الكتائب وحملة تحريض في الضيعة.
الرواية الأمنية غير الرسمية، تؤكّد التالي: كان الأمر عاديّاً قبل معرفة هويّة الشاحنة. نصف الساعة الأولى بعد الحادث الذي أكّد سائق الشاحنة أن سببه خلل في المكابح، مرّ بسلام. اطمأن الجيران إلى حال السائق ومرافقه أحمد قصاص، واستمرت دورة الحياة الطبيعية في الحيّ، حتى بعد وصول مجموعة الحماية التي ترافق الشاحنة. في هذه الأثناء، كان حزب الله قد أبلغ الجيش اللبناني بالحادث، وطلبت المخابرات من عناصرها التوجّه إلى المكان. بعد وقت قصير، يُسرّب أحد ما خبر انقلاب شاحنة تابعة للمقاومة على كوع الكحّالة إلى قناة «أم. تي. في»، التي تقدّم الخبر كـ«عاجل». وما هي إلّا دقائق حتى بدأ الكتائبيون بالتوافد إلى مكان انقلاب الشاحنة نزولاً من مكتبهم الذي صودف أنهم كانوا يعقدون اجتماعاً فيه، فيما بدأ آخرون بالتجمهر على الطريق قرب كنيسة البلدة. خرج من بين الحشد من تحمّس ليطالب بمصادرة الشاحنة وفتح الصناديق الموجودة فيها، وهذا ما لم يسمح به رجال المقاومة المكلّفون بمواكبة الشاحنة حتى الرمق الأخير وانتظار سحبها ومحتوياتها من قبل الجيش اللبناني. سرعان ما تطوّر التلاسن إلى رمي الحجارة بكثافة من المجموعة الكتائبية، إلّا أن مجموعة الحماية حافظت على رباطة جأشها، بينما أبلغ حزب الله الجيش اللبناني عبر خطوط الاتصال بنيّة الكتائب سرقة محتويات الشاحنة. على الطريق، لم ينصع الكتائبيون للمطالبات بالابتعاد عن الشاحنة ووقف رمي الحجارة، وبدأ عدد منهم بالقفز فوق القاطع الإسمنتي والاندفاع نحوها، فبدأ المقاومون بالتراجع. مع وصول بعض المتحمّسين إلى الشاحنة، أشهر أحد المقاومين مسدّسه مطلقاً الرصاص في الهواء في محاولة لتفريقهم. على يمين الكنيسة، كان خمسة إلى سبعة مسلحين بينهم فادي بجاني، بدأوا إطلاق النار وأصابوا قصاص الذي سقط أرضاً، فلم يكن من مجموعة الحماية إلا أن ردّت سريعاً على مصادر النيران وأصابت بجاني. والأخير، بحسب الرواية ذاتها، لم يكن يعرف أصلاً ما يحصل، لكنّ هناك من توجّه إلى منزله من جيرانه الكتائبيين وطلب منه إحضار بندقيته لـ«الدفاع عن المنطقة»!
تسلسل أحداث كلاسيكي إذا ما قورن بعمليات حزب الكتائب السابقة، خصوصاً في هذه المنطقة. في 2 كانون الأول 1975، أوقفت مجموعة كتائبية على مقربة من كوع الكحّالة شاحنة تحمل لوحةً كويتية محمّلة بنسخٍ من القرآن في طريقها إلى السعودية، وأحرقتها، لا لشيء، سوى لتسعير الحرب الأهلية والصراع بين المسلمين والمسيحيين. وللمفارقة، حصلت تلك الحادثة قبل أيام من جريمة اختطاف وقتل أربعة شبّان كتائبيين، والتي استغلّها حزب الكتائب لارتكاب مجزرة السبت الأسود.
أمس، وفيما كانت الاتصالات تتواصل لتطويق ذيول الحادثة، استكمل رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميّل ما بدأه محازبوه ليل أول من أمس، معلناً أنه سيتخذ منحى جديداً وليس «نضالاً سياسيّاً تقليديّاً». وشكّل كلامه رسالة إلى من يعنيهم الأمر في الخارج بأنه يستطيع القيام بما يشتهيه أعداء المقاومة، بقطع طرق إمدادها حيث أمكن والتعدّي على رجالها وسلاحها وعتادها. إعلان الجميّل، وتصرّف الكتائبيين، فُسّرا أيضاً على أنهما قرارٌ اتُّخذ مسبقاً بالانتقال إلى لعب دور الأداة في خدمة «إقلاق راحة المقاومة»، ومحاولات تقسيم لبنان. ولم يُعجِب أداء الجيش اللبناني، الجميليّين، سامي ونديم، حتى إن الأخير ذهب بعيداً في تحريضه على الجيش، بالقول إن لبنان لا يحتمل مرّة جديدة «تخاذل» الجيش!
محاولات التعبئة اصطدمت بالمزاج العام للبلدة غير المؤيّد للقوات والكتائب، والتي تضم نخباً مؤثّرة لا تريد زجّها في تصفية حسابات سياسية لا علاقة لها بها من قريب أو بعيد، وهو ما تجلّى في بيان أصدرته عائلة بجاني، دعت فيه السياسيين والأهالي إلى توخّي الدّقة خلال إبداء الرأي، وأكّدت أن كل موقف يتعلّق بما حصل يصدر عنها فقط، وطلبت من وسائل الإعلام عدم أخذ أي تصاريح خلال مراسم تشييعه اليوم. فيما شيّع حزب الله أمس الشهيد قصاص في الضاحية الجنوبية بمشاركة حاشدة، ومن دون إلقاء كلمات سياسية.
من جهته، بذل التيار الوطني الحر، بمواكبة حثيثة من الرئيس ميشال عون، جهوداً لتطويق ذيول الحادث وتهدئة جمهوره واحتضان العائلة. وشدّد عون على أن «المطلوب اليوم هو التهدئة بدل التحريض، ومدّ جسور الثقة بدل بثّ سموم الكراهية، وانتظار نتائج التحقيق. والهيكل إذا سقط فلن يسلم أحد، خصوصاً في الظروف التي تحيط بنا، وما من منقذ في الأزمات سوى الوحدة الوطنية فتمسّكوا بها». كما حضر رئيس حزب الوعد جو حبيقة إلى الكحالة مع وفد كبير من أصدقاء البجاني الذي عمل مرافقاً له وسابقاً مرافقاً للوزير السابق إيلي حبيقة حتى إصابته بمرض السرطان وانقطاعه عن العمل.
الجيش من جهته، لا يزال يعمل على تجميع الأدلة الماديّة واستخراج المقاطع المصوّرة من الكاميرات المثبتة في المكان لتكوين رواية حقيقية لما حصل والأسباب التي أدّت إلى تفاقم الأمور ومن بدأ بإطلاق النار. فيما لم تتضح بعد ملابسات الحادثة لدى المخابرات. وبينما يتحفّظ الجيش على حمولة الشاحنة، فإنه لم يعمد بعد إلى توقيف أي شخص من أي جهة كانت، بانتظار أن يضع الأدلة التي يجمعها في عهدة القضاء، الذي سيطلب على الأرجح التوسّع في التحقيقات والمزيد من الأدلة والإفادات. علماً أن الجيش يتابع تحقيقاته بإشارة النيابة العامة التمييزية منذ أول من أمس، وليس بإشارة النيابة العامة العسكرية التي لم تتوجّه إلى المكان أصلاً لأسباب غير معلومة.
مصادر متابعة أشارت إلى مسرّب الخبر الى قناة «أم. تي. في.» تعمّد استثارة الفعل، بالتزامن مع حملة التحريض التي شنّها الكتائبيون في البلدة، وأن على القضاء التحقيق في هذه المسألة لفهم ملابسات الأمر.
فراس الشوفي – الاخبار