تعثّر المفاوضات غير المباشرة على الحدود المائية مع العدو لا يثير فقط أسئلة حول إمكان استئنافها، بل يُلقي بظلال ثقيلة على واحدة من أهم النتائج التي كانت تل أبيب تأمل تحصيلها من العملية التفاوضية، وهي الإضرار بالمقاومة بوصفها السبيل الأنجع لتحصيل الحق اللبناني. علماً أن هذه هي النتيجة التي كانت، مع آخرين في الداخل والخارج، تنتظرها لتنسحب العملية التفاوضية على ملفات شائكة أخرى بين الجانبين، وربما أيضاً تطويرها أكثر على المستوى السياسي، على غرار أنظمة عربية تتراكض للتطبيع مع العدو.
لا تشكل منطقة الحدّ البحري مع لبنان أكثر من اثنين في المئة من مساحة المنطقة الاقتصادية الخاصة بفلسطين المحتلة، والتي بدأ الاحتلال استثمار مواردها الغازية. يعني ذلك، واقعاً، أن العدو قادر على احتواء نتائج هذا «النزاع» من ناحية اقتصادية، واحتواء أضرار «تجميد» استغلال هذه المنطقة، و«الصبر» إلى حين تغيير الموقف اللبناني، رغم أن العائد الاقتصادي للمنطقة «المتنازع عليها»، بحسب صحيفة «هآرتس»، يصل إلى «عشرات مليارات الدولارات». إلا أن الخسارة الحقيقية هي النتائج التي كانت تأمل إسرائيل تحقيقها بما يتجاوز الحد البحري بين الجانبين: التسوية والمفاوضات بديلاً عن المقاومة لتحصيل حقوق لبنان أو جزء منها. رغم أن العملية التفاوضية نفسها، وإمكانات التسوية مع الاحتلال، لم تكن لتكون لولا وجود المقاومة واقتدارها. وهنا ينقلب الواقع من ناحية تل أبيب، وتتحول المقدمات إلى نتائج، والعكس صحيح.
وفقاً لهذا الاتجاه، من شأن تجميد المفاوضات مع لبنان الإضرار بإسرائيل على المستوى الاستراتيجي، في سياق الحرب الدائرة بينها وبين المقاومة، ما يعني أن على إسرائيل أن تعيد درس واقع المفاوضات وحساباتها وعواملها لتحديد الموقف الملائم الذي يؤدي إلى استئنافها، ليس وفقاً لحسابات اقتصادية وحسب، بل أيضاً وفقاً لحسابات استراتيجية ترتبط بالمواجهة الدائمة مع المقاومة، ما يعني اختلافاً في الدوافع والحوافز لتأمين ما يلزم لاستئناف المفاوضات التي تُعدّ مصلحة إستراتيجية لإسرائيل فضلاً عن كونها مصلحة اقتصادية.
هل يعني ذلك تفعيلاً أكثر للضغوط الأميركية على الإدارة اللبنانية للتفاوض، أو تراجعاً إسرائيلياً بقدر معيّن أمام المطالب اللبنانية، أو الإبقاء على تجميد المفاوضات إلى حين تبلور الموقف الأميركي للإدارة الأميركية منها؟ مجموعة أسئلة لا تفارق تحليل أزمة المفاوضات، وتتضمّن دائرة واسعة من الفرضيات. إلا أن المؤكد أن لإسرائيل مصلحة تتجاوز الفائدة الاقتصادية تدفعها إلى تحريك هذا الملف سريعاً.
إطلاق العملية التفاوضية مع العدو رافقته انتقادات ترتبط بالشكل والمضمون، جاءت متطابقة نسبياً مع ما أرادته إسرائيل، وكان ذلك نجاحاً كبيراً لها بعد أن حقّقت خرقاً لقواعد ثابتة لدى الجانب اللبناني بما يرتبط بوحدانية النزاعات الحدودية مع العدو، البرية والبحرية. إلا أن إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة، أخطأت في تقدير موقف لبنان بما يتجاوز رضوخه للمشاركة في التفاوض، وتحديداً ما يتعلق بالعوامل التي تبلور هذا الموقف، فأملت من العملية التفاوضية ما لا تحتمله ولا تقوى عليه.
أحد الأخطاء هو التقدير الخاطئ لمدى تأثير ضغط أميركا و«الخوف» اللبناني منها، وأن مفاعيل هذا الضغط تنسحب على نتيجة المفاوضات وفقاً للإرادة الإسرائيلية؛ إضافة الى الخطأ في تقدير فاعلية الأزمة الاقتصادية على الموقف اللبناني ما يدفعه إلى القبول بالإملاءات، طالما أن النتيجة هي تمكينه من التنقيب عن غازه والاستفادة من عائده الاقتصادي؛ كذلك أيضاً الخطأ في تقدير حوادث و«كوارث» حصلت في لبنان، هي امتداد للعامل التأثيري الثاني، ومن بينها الانفجار في مرفأ بيروت؛ وأيضاً الخطأ في تأويل جملة من التصريحات التطبيعية لمقرّبين و«أقارب» لإدارة ملف التفاوض، وتحميلها ما لا تحتمل… وغيرها من العوامل.
وفقاً لتسريبات الإعلام العبري، يبدو أن قرار إسرائيل هو العمل على تفعيل مزيد من الضغط والتهويل لدفع لبنان إلى التراجع عن حقوقه الغازية كما وردت في الجولات الأخيرة للتفاوض. وقد ورد في صحيفة «هآرتس» تهديد غير مباشر للبنان، بـ«أن مشكلة لبنان هي في أن الجمود في المفاوضات يؤخّر بدء عمليات التنقيب عن الغاز، عبر شركات من فرنسا وإيطاليا وروسيا وقّعت عقوداً مع الجانب اللبناني، وهذه الشركات لن تبدأ التنقيب ما دام الخلاف الحدودي من دون حلّ، وهذه هي أيضاً الرسالة التي وصلت من إسرائيل نفسها إلى الشركات الثلاث».
إذاً تعمل إسرائيل، وبطبيعة الحال من خلفها الولايات المتحدة، على تفعيل الضغط عبر تجمّع شركات «توتال» الفرنسية و«إيني» الإيطالية و«نوفاتيك» الروسية. وهذا التسريب التهديدي من جانب إسرائيل يستأهل متابعة لبنان لدى هذه الشركات لمعرفة إن كانت قد رضخت للضغوط كما تدعي تل أبيب عبر إعلامها، والاستعلام عن مدى الرضوخ ومستواه، إن حصل فعلاً.
أخطأ العدو في تقدير مدى تأثير ضغط أميركا و«الخوف» اللبناني منها
على خط مواز، تواصل إسرائيل لعب دور الضحية والجهة التي تتلقّى الفعل اللبناني المتطرف في المفاوضات، كما تحاول تظهير نفسها أنها تعمل بجهد على معرفة ما تقول إنها الأسباب التي تدفع لبنان إلى رفع سقف المطالب التفاوضية لديه. وفقاً لتسريبات عبر صحيفة «هآرتس»، يبدو أن تقديرين إسرائيليين يتعلقان بالموقف اللبناني من المفاوضات:
وفقاً للتقدير الأول «لبنان غير معنيّ بأن يتوصل إلى اتفاق، وكل ما أراده منها هو فقط أن يُظهر لإدارة (الرئيس الأميركي دونالد) ترامب استعداده للمفاوضات، حتى لا يخاطر بالخلاف مع الأميركيين»؛ ووفقاً للتقدير الثاني «شارك اللبنانيون في المفاوضات وفقاً لبازار تفاوضي: مطلب أعلى لتحصيل المطالب التي يريدونها في نهاية المطاف». يضاف إلى ذلك «احتمال أن أسباب الجمود تكمن في الديناميكيات الداخلية تجاه حزب الله ، الذي أُجبر على الموافقة على بدء المفاوضات، ولم يكن متحمساً». والاحتمال الأخير، كما يظهر، هو تحميل فشل المفاوضات مسبقاً لحزب الله، كما كان متوقّعاً منذ بدء العملية التفاوضية.
في إسرائيل، تضيف التسريبات العبرية، وكما يبدو بهدف الحثّ على استكمال التفاوض والتشجيع عليه، أنه «ما زال يُقدر أن هناك احتمالاً معقولاً للتوصل إلى تسوية تخدم الطرفين ويخرجان منها رابحين، وإن كان هذا الاحتمال في الوقت الحالي، أقلّ مما كان عليه في تشرين الأول الماضي». وهذا التراجع كما تشير تل أبيب، أيضاً مرشح للتراجع أكثر، إذ أن «القلق الآن هو أنه في ظل تغيير الإدارة في واشنطن، ستتجمّد الاتصالات لفترة طويلة، وستتقلّص فرص حل الخلاف بشكل كبير».
المصدر: الأخبار