رغم الاحداث الخطيرة التي تتالت على الساحة اللبنانية خلال الايام الماضية، الا انّ الحدث المحوري يبقى في بدء الولايات المتحدة الاميركية وايران تطبيق بنود الاتفاق الشفهي الذي جرى التفاهم حوله بعد سنتين من المفاوضات السرية بينهما، والذي تمحور حول البرنامج النووي الايراني. اما الاحداث التي طالت الساحة اللبنانية فإنها لن تؤدي الى إحداث الخرق المطلوب في جدار الازمة السياسية الحادة الحاصلة، في وقت من الممكن ان ينتج عن التفاهم الاميركي – الايراني نتائج غير مباشرة على الساحة اللبنانية.
صحيح انّ الاتفاق يشكل مصلحة مُلحّة للطرفين خصوصا على المستوى الداخلي لكل منهما، الا انه سمح بفتح الطريق امام ورشة اعادة ترتيب خارطة النفوذ السياسي في ساحات المنطقة الخمس والتي عملت ايران طوال المراحل الماضية على انتزاع نفوذ لها فيها من خلال قوى مسلحة متحالفة معها وهي حققت نجاحات كبيرة وتسعى حالياً لترجمتها من خلال ترجمتها على مستوى تركيبة السلطة ولبنان معني مباشرة في هذا الشق. ولم يكن من باب «الانشاء» ايراد البند المتعلق بوقف استهداف ايران مباشرة او غير مباشرة للقوات الاميركية المتمركزة في العراق وسوريا. وفي الوقت عينه لم يكن من باب الصدفة تحرّك واشنطن على مستوى هذه الساحات خصوصا في سوريا والعراق واليمن خلال الاسابيع القليلة الماضية. لقد كان واضحاً ان التحرك الاميركي الجديد إنما يأتي في أعقاب انجاز التفاهم الشفهي مع ايران، وعرض العضلات الاميركية في الخليج وشمال سوريا أتى محميّاً تحت مظلة البند الوارد في الاتفاق الشفهي.
أضف الى ذلك الدور المحوري الذي تولّته قطر، ما يجعل منها عرّاباً اساسياً في الملف اللبناني. والواضح ان الاتفاق الشفهي الذي حصل طابعه مرحلي. فمن جهة تتجنّب ادارة بايدن مُماحكات الكونغرس في وقت بدأت فيه البلاد تدخل أجواء الانتخابات، والتي تبدو في غاية الحماوة والتعقيد، ومن جهة ثانية يحافظ فيها النظام الديني الحاكم في ايران على خطابه الايديولوجي ومفرداته الثورية ليثبت معها شرعيته الداخلية بعد اضطرابات شعبية صعبة شهدتها ايران على مراحل متعددة رغم وجود رأي لدى جزء اساسي من مؤسسات صنع القرار الاميركي، يعتقد أن هنالك امكانية لنسج تفاهم كامل مستقبلاً مع ايران حيال كامل المشهد السياسي في الشرق الاوسط، والذي يشمل الواقع الاسرائيلي بطبيعة الحال. لكن هنالك رأياً آخر يُخالِف هذه النظرة لأنه سيعني بكل بساطة سقوط شرعية النظام القائم في ايران. وبعيداً عن التجاذب الحاصل داخل اروقة واشنطن بين انصار هذين التوجهين، فإن الكواليس الديبلوماسية تتحدث عن اقتراح يجري طرحه ويقضي بعقد لقاء اميركي – ايراني على هامش اعمال الجمعية العامة للامم المتحدة في ايلول المقبل، لكن حتى الآن لم تظهر بوادر جدية لتحقيق هذا الاقتراح. وبالعودة الى المرحلة الجديدة التي دخلنا فيها، والتي تحمل عنوان اعادة رسم الخارطة السياسية في الشرق الاوسط، فإن الضغوط تطال الممرات المائية لتصدير النفط في الخليج العربي، اضافة الى ساحات العراق وسوريا وايضا لبنان. وفيما عمدت واشنطن الى رفع مستوى حضورها العسكري في الخليج وسوريا، فإنها باشرت بإعادة صياغة علاقات عسكرية وامنية في العراق من خلال انجاز تفاهمات ثابتة وطويلة وشاملة ترتكز خصوصاً على المجموعات السنية والكردية. اما في سوريا وبعد مرحلة الصدامات الجوية مع روسيا، فثمة ترتيب جديد حصل وسمح بعودة العلاقات التنسيقية بينهما.
وفي المقابل تصاعدت الهجمات التي عاد يشنها تنظيم داعش والتي تستهدف الجيش السوري والتنظيمات الموالية لإيران في الشمال السوري، في وقتٍ يعاني فيه الجيش السوري ضعفَ الدعم اللوجستي وحركة الامدادات بسبب سوء الحالة الاقتصادية. وتشير الترجيحات الى احتمال ازدياد وتيرة الهجمات من دون ان يتطور الوضع الى معارك واسعة ومواجهات مفتوحة. مع الاشارة هنا الى الدور الجديد التي باشرت تركيا بتولّيه للتوازن مع ايران تحت مظلة الحلف الاطلسي. وفيما تستمر الهجمات الجوية الاسرائيلية في دمشق ومحيطها، تتصاعد عمليات الاغتيال في المنطقة الجنوبية والتي تستهدف كوادر اساسية، وهو ما يطرح العديد من علامات الاستفهام. ويأتي ذلك مع تراجع عمليات استهداف القوات الاميركية انسجاماً مع الاتفاق الذي حصل مع ايران. ووفق هذه الصورة الاقليمية يمكن قراءة المشهد اللبناني، ذلك ان الصراع القائم يتعلق ترتيب معادلته الداخلية في اطار الصورة العريضة والمتعلقة بخارطة النفوذ الجديدة. وانسجاماً مع الصورة العريضة فإن الضغوط ستتصاعد في لبنان ولكن مع حرص جميع الافرقاء على ألا تذهب بعيداً وتنزلق الى متاهات الفوضى الامنية المفتوحة بضمانة الجيش اللبناني وهذا ما ظهر بوضوح مع حادثة الكحالة.
ولأن الثنائي الشيعي، والذي يعمل وفق التوقيت الاقليمي، كان يعلم َأن المرحلة هي مرحلة تصاعد الضغوط قبل ولوج مرحلة التفاوض لتركيز التفاهمات والمعادلة اللبنانية الجديدة، حاول الرئيس نبيه بري تَجنّب مخاطر استلام وسيم منصوري، المحسوب عليه، مهام حاكمية مصرف لبنان. فالمرحلة هي مرحلة انهيارات مالية واقتصادية، ما سيجعل الثنائي الشيعي يحمل مسؤولية الانهيارات المالية من خلال توليه وزارة المال وحاكمية المصرف المركزي. لذلك لوّح منصوري بالاستقالة من موقعه بطلب من بري، قبل ان يجري ترتيب المسألة مسبقاً. فتوافق بري مع رياض سلامة على ان يقوم الاخير بوضع خطة مناسبة تؤدي الى ابقاء سعر صرف العملة الوطنية تحت السيطرة لفترة شهرين او ثلاثة ريثما يكون منصوري قد اصبح اكثر إلماماً بشؤون ادارة المصرف المركزي. وفي الوقت نفسه التزامه بعدم المساس بأموال المركزي الا بعد ان يُجيز له المجلس النيابي ذلك، وهو ما يعني إعفاء نفسه من اية مسؤولية وإلقائها على المجلس النيابي. والهدف هنا انتظار موعد التفاهم على تسوية مع الاميركيين للمرحلة المقبلة عبر بوابة الاستحقاق الرئاسي بأقل قدر ممكن من الضغوط.
في الواقع وبخلاف الخطاب السياسي والاعلامي الحاد الذي يلوّح بالمزيد من التصعيد، فإن كلا الفريقين يدركان أن لا قدرة لأيّ منهما على ايصال مرشحه حتى ولو نال غالبية الـ 65 صوتاً. فـ«حزب الله» يدرك مدى عمق وخطورة الانهيار الاقتصادي الحاصل، والذي هو بحاجة ماسة وملحة لمساعدة خارجية. والا فإن السقوط يصبح مدوياً، وهو ما يعاكس مصالح الحزب، خصوصا انّ هنالك طبقة اقتصادية ومالية شيعية قد تكوّنت في لبنان نتيجة عوامل عدة وباتت تخشى من ذوبانها من جديد، وهي التي تجد مخاطرة كبرى في انتقالها الى اسواق خارجية كي تحمي نفسها. ما يعني انّ الثنائي الشيعي يدرك في العمق حاجته لعودة التواصل اللبناني مع دول الخليج بعد انجاز الاتفاق السياسي مع واشنطن. وكذلك يدرك الفريق الآخر ان حصوله على غالبية الـ 65 صوتاً لن يعني انهاء الصراع، كون «حزب الله» قادر على الشغب امنياً وسياسياً فور تثبيت رئيس سيحمل صفة التحدي. واستطراداً فإن الجميع يدرك ضمناً بأن الضغوط يجب ان تليها تسوية شاملة تحدد عناوين المرحلة المقبلة، وهو ما يعني انتخاب رئيس للجمهورية بغالبية تفوق الثلثين، ولو ان ذلك قد يحتاج لبعض الحماوة لإنضاج الاخراج المطلوب ودفع الجميع الى تدوير الزوايا. وخلال الاجتماع الاخير للدول الخمس في الدوحة، كان الهدف توجيه الرسائل الواضحة والتي استتبعت بطلب الدول الخليجية مغادرة رعاياها لبنان. معنى الرسالة الموجهة لـ«حزب الله» انّ البقاء في المربع نفسه سيعني تشديد الخناق الاقتصادي، والباقي معروف.
لكنّ الحزب، الذي وصلته المواقف العالية السقف خلال اجتماع اللجنة الخماسية في الدوحة، كان منزعجاً ومتوجساً وقد يكون انتظر جديدا او حركة اكبر من قطر التي تحظى بحركة مَرنة ومتحركة. لكن الحركة القطرية التي ظهرت سرعان ما توقفت. اغلب الظن بسبب الظروف الاقليمية التي لم تكتمل بعد لفتح الباب اللبناني، وهذا ما طلبته واشنطن على الارجح. لكن هذا الباب لن يتأخر فتحه كثيرا وسط تصاعد الضغوط. ورهان البعض على ضرورة تجاوز المهلة الزمنية لانتهاء ولاية قائد الجيش العماد جوزف عون، هو رهان قصير النظر. فالقرار الكبير بالمحافظة على فعالية الجيش ومنحه دورا اساسيا في المرحلة المقبلة، هو قرار اكبر من الجميع ولا قدرة لأحد على تجاوزه.
وفي كل الاحوال، فإن المرحلة التي دخلنا فيها هي مرحلة الضغوط الكبيرة، وبالتالي انّ الاشهر المقبلة ستكون الاشهر الصعبة، وصولاً الى إنضاج ظروف التسوية التي ستفتح ابواب قصر بعبدا وابواب تفاهمات واسعة تسمح للبنان بولوج مرحلة استقرار. لكن حذار، فنحن في الشرق الاوسط، ساحة المفاجآت غير المحسوبة، ما يعني ان لا شيء مضموناً، ما يستوجب بعض التعقل والواقعية لا الانفعال والشعبوية.
جوني منيّر- الجمهورية