بعد الجدال الذي اندلع منذ بدء الأزمة المالية في تشرين 2019 عن أسباب الانهيار المالي، أتى تقرير «الفاريز اند مارسال» ليؤكّد انّ المشكلة الكبيرة هي عند الدولة التي استعملت مصرف لبنان لمدّ اليد على اموال المودعين، أكان بالقوة او بالقانون او بالتواطؤ مع الحاكم، استعملتها وتبخّر نحو 50 مليار دولار من اموال المودعين حتى العام 2020.
«توسيع صلاحيات نواب الحاكم قد يؤدي الى شلل على مستوى اتخاذ القرارات»
كشف تقرير «الفاريز اند مارسال» جوانب كثيرة من السياسة المالية التي حاولت السلطة إخفاءها عن الرأي العام. فهي مقابل سلسلة الرتب والرواتب والتسهيلات المالية والحوافز المقدّمة للاقتراض والفوائد العالية، كانت تغطي مجزرة ثانية حصدت لدى وقوعها جنى عمر جيل بأكمله. وما تقرير «الفاريز اند مارسال» سوى الصندوق الأسود الذي فضح هذه السياسة المالية والمنظومة التي ادارتها، انما بعدما وقعت الفاجعة. فما الذي يجب معرفته عن التقرير، والذي وصلنا بنتيجته إلى دولة متخلّفة وفقيرة.
في هذا الإطار، عدّد الخبير الاقتصادي باتريك مارديني أبرز البنود الواردة في تقرير «الفاريز اند مارسال»، والتي يجب التوقف عندها لفهم اسباب الأزمة ومعطياتها. وقال لـ»الجمهورية»:
اولاً: من حيث الشكل، كان بارزاً عدم تعاون المصرف المركزي وعرقلته لعمل التدقيق الجنائي، وقد ورد ذلك صراحة في التقرير.
ثانياً: أما من حيث المضمون فكان أهم ما ورد في التقرير انّه كان لدى المصرف المركزي فائضاً بالعمولات الاجنبية يبلغ 7.2 مليارات دولار عام 2015، هذا الفائض تحوّل إلى فجوة في حسابات مصرف لبنان بـ 50 مليار دولار، وبالتالي انّ الحديث عن الانهيار المالي استناداً الى التدقيق الجنائي يؤكّد انّ السياسات المالية التي كانت متّبعة قبل 2015 كانت فعّالة، وانّ الفجوة بدأت تتكوّن اعتباراً من العام 2015، ما يثبت انّ السياسات المالية السيئة هي التي أوصلتنا الى ما نحن عليه اليوم، وهذا ما يجسّد الجدال الذي انطلق مع بداية الأزمة عن اسبابها. وبالتالي، انّ تقرير «الفاريز اند مارسال» يجزم بأنّ الأزمة تولّدت بسبب السياسة التي اتُبعت بعد العام 2015 وليس قبله.
ثالثاً: كشف التقرير انّ المجلس المركزي هو «خيال صحراء». فالتقرير يتحدث عنه بطريقة مخزية، ويقول انّ الحاكم يتمتع بصلاحية مطلقة يتصرّف على هواه دون الرجوع الى أحد من المجلس المركزي، والذي كان يوافق على الهندسات المالية من دون فهمها حتى، ومن دون معرفة أهدافها. كما يتحدث التقرير عن سلطة مطلقة للحاكم، لا ضوابط لعمله لا من قِبل المجلس المركزي ولا من قِبل مفوض الحكومة، ما يؤكّد انّ هناك مشكلة حوكمة كبيرة داخل المصرف المركزي، لأنّ المجلس المركزي الذي كان يُفترض ان يكون ضابطاً لعمل الحاكم كان «يوقّع له على بياض»، وفي هذا إدانة للمجلس المركزي.
رابعاً: لا بدّ من التوقف كذلك عند موضوع «العمولات غير الشرعية» والتي بلغت قيمتها 111 مليون دولار، وذلك لدى الحديث عن شركة «فوري» والحسابات التي خرجت إلى اوروبا ومنه دخلت إلى حسابات رياض سلامة… ويؤكّد هذا البند على صحة كل التحقيقات التي يقوم بها القضاء الاوروبي، وما استُتبع أخيراً بفرض الخزانة الاميركية عقوبات على الحاكم السابق، ما يعني انّ تقرير التدقيق الجنائي والتحقيقات الاوروبية والعقوبات كلها تصبّ في الاتجاه نفسه.
خامساً: كان ملفتاً كذلك النفقات التشغيلية الكبيرة التي وردت في التقرير، والتي تكاد تكون غير منطقية وتتوزع ما بين مساعدات ورعاية ومخصّصات وهبات.
إعادة النظر بقانون النقد والتسليف؟
إلى ذلك، وبعدما تكشفت السياسة المالية السيئة التي كانت متّبعة والتي أدّت الى الانهيار، برزت مطالبات بتعديل قانون النقد والتسليف، بحيث يمنع الدولة مستقبلاً من ان تكون لديها القدرة على مدّ اليد على اموال مصرف لبنان التي هي غالباً اموال المودعين اياً تكن الظروف الاستثنائية. فما الذي يجب فعله لقطع الطريق على تكرار مثل هذه التجربة؟ وكيف يمكن التصرّف بهذا التقرير امام القضاء؟
في السياق، يرى القانوني مروان صقر، انّ الامر سهل جداً، ببساطة يجب تطبيق قانون النقد والتسليف، والذي يمنع المجلس المركزي من ان يديّن او يُقرض الدولة اللبنانية. صحيح هو يستطيع ذلك في حالات استثنائية الّا انّه غير مجبر على ذلك. في الواقع، انّ ما كان يحصل في السنوات الماضية هو استسهال مدّ اليد على اموال المركزي، بحيث انّه كلما ارادت الدولة اموالاً تطلبها من المركزي من دون ان يكون ذلك تحت ظروف استثنائية.
وعن الأحادية في اتخاذ القرارات في المصرف المركزي وربطها كلها بشخص الحاكم بدل العودة الى المجلس المركزي قال صقر: «انّ لذلك علاقة بشخصية الحاكم، صحيح انّ للحاكم صلاحيات واسعة في القانون، لكن ربما يجب توسيع صلاحيات المجلس المركزي ايضاً». أضاف: «عندما أُنشئ نظام المصرف المركزي في الستينات كان هناك توافق بألّا يتدخّل في الحسابات السياسية والمحاصصات. فنحن نؤيّد ان تكون للحاكم صلاحيات واسعة شرط ان لا تكون لديه حسابات اخرى غير تطبيق القانون ومراعاة مصلحة المالية العامة». وحذّر صقر من انّ توسيع صلاحيات المجلس المركزي او التحّول نحو ادارة جماعية قد يعرّضه للشلل عند أي انتكاسة سياسية.
وعمّا اذا كان يمكن استخدام هذا التقرير امام القضاء، قال: «انّ هذا التقرير ملك وزارة المالية التي يُناط بها تحويله الى القضاء إذا ارتأت ذلك. أما اذا أمكن إثبات ان بعض المخالفات الواردة في التقرير ينطبق عليها توصيف الجريمة الجزائية، فيمكن التوجّه فيها الى القضاء، حتى لو كان الاتفاق الموقّع بين الدولة و»الفاريز» ينص على انّه لا يمكن للدولة استعمال التقرير أمام القضاء».
الجمهورية