مع تغيّر المناخ وزيادة حرارة الأرض، دخل العالم منذ أكثر من ربع قرن في مفاوضات شبه عبثية للتخفيف من الانبعاثات والتكيّف مع التغيّرات المناخية. ولم تلتزم الدول المتقدمة، المسبّبة الأولى للانبعاثات العالمية، بـ«التخفيف» منها، وبقي محور مطالبات الدول النامية هو كيفية تمويل عمليات «التكيف» (مع ارتفاع درجات الحرارة). لكن، عملياً، كان همّ الجميع الشكل الحاسم والفعلي للتكيّف، أي كيفية تركيب المكيفات وتشغيلها.
تُرك للدول والسلطات الحكومية والمحلية الاهتمام بجوانب أخرى من «التكيف»، كإنشاء حيطان دعم على الشواطئ تحسباً لارتفاع مستوى مياه البحار، أو حماية الغابات بالتشجير وزيادة المساحات الخضراء (لزيادة امتصاص ثاني أوكسيد الكربون)، أو التغيير في أسس البناء وتطوير البنى التحتية تحسباً للفيضانات، أو تخزين المياه… الخ، وهي إجراءات لا تزال بعيدة جداً عمّا هو مطلوب فعلاً.
أما على المستوى الفردي والمؤسساتي، فقد زاد استخدام العالم للمكيّفات بشكل واسع، ولا سيما في البلدان النامية التي تستخدم غازات التبريد من نوع (اتش اف سي)، وهي أكثر تأثيراً بما لا يقاس على الاحترار العالمي من ثاني أوكسيد الكربون. هذا التوسع في التكييف، وفق حسابات العدالة المناخية أو وفق حسابات كيفية سدّ الفجوة بين زيادة الانبعاثات وحجم التخفيضات المطلوبة، قد تكون له انعكاسات تساهم في زيادة استهلاك الطاقة والانبعاثات ورفع حرارة الأرض… بشكل متصاعد وجهنمي.
بحسب تقرير للوكالة الدولية للطاقة، ارتفع استهلاك الطاقة الكهربائية هذا الصيف في المنطقة العربية بنسبة 10% مقارنة بالعام الماضي، علماً أن أجهزة التكييف تستهلك بين 50 و75% من الاستهلاك الإجمالي للكهرباء في الأماكن الحارة. وهنا المعادلة واضحة: كلما زادت البلدان النامية نمواً، وكلما زاد ارتفاع درجات الحرارة، ارتفع الطلب على الطاقة الكهربائية الأحفورية الخاصة بأجهزة التبريد، وكبرت فاتورة الطاقة وزيادة الانبعاثات والكوارث المناخية، إذ إن تكييف الهواء مسؤول عن انبعاث نحو مليار طن من ثاني أوكسيد الكربون سنوياً من إجمالي 37 ملياراً في أنحاء العالم… ومع الأخذ في الاعتبار أن الوفيات بسبب زيادة الحرارة أقل بنسبة 75% في المنازل المكيفة، يعني ذلك أن الفجوة في العدالة العالمية ستصبح أكثر اتساعاً، وأنّ من يتحدثون عن العدالة المناخية سيكون وضعهم في غاية الحرج الأخلاقي. وإذا عرفنا أن نسبة المنازل المكيّفة في البلدان المتقدمة قد تصل الى 90% كما هي الحال في الولايات المتحدة، وأن 15% فقط من السكان في البلدان النامية (من أصل 3،5 مليارات من السكان)، يعيشون في هواء مكيّف في المناطق الحارة، وأن للنسبة الأكبر الباقية الحقّ في الوصول الى النسب الموجودة في البلدان المتقدمة ذاتها، نعرف أي مصير ينتظر كوكبنا.
تكييف الهواء مسؤول عن انبعاث مليار طن من ثاني أوكسيد الكربون سنوياً
تحصي بعض الدراسات الدولية وجود ما يقارب مليار مكيّف في العالم، مع توقّع أن ترتفع الأرقام مع تحسّن الدخل في البلدان النامية (ولا سيما في الصين والهند وأندونيسيا) بنسبة تتراوح بين 10 و40% بحلول عام 2050، وهو الموعد المتوسط للوصول الى تصفير الانبعاثات العالمية! فأيّ نتائج من جولة المباحثات الدولية نتحدّث ونترقّب نهاية هذا العام في الـ«كوب 28» في دبي؟
انطلاقاً من هذه المعطيات، كيف سيتمّ التعامل مع قضية التبريد والكوارث التي تسبّبها على المستوى العالمي والإقليمي والوطني والفردي؟
لم تعد النصائح بتثبيت الحرارة صيفاً على 24 درجة لتوفير الطاقة، ولا زيادة معايير الكفاءة في التقنيات المستخدمة في التبريد تجدي نفعاً. كما أن البدائل من الغازات المؤذية للمناخ، والتي سبق الترويج لها بوصفها غازات تبريد صديقة لطبقة الأوزون، لا تزال بعيدة المنال بسبب الاختلاف بين المؤسسات الدولية المعنية بقضيّتَي تغيّر المناخ واستنفاد طبقة الأوزون، وبسبب المنافسة في الأسواق بين الدول والشركات المستثمرة في قطاع التكييف والتبريد.
وإذ يرى البعض أن الرهان الأكبر هو بالاعتماد على الطاقات المتجددة والبديلة، إلا أن هؤلاء لا يرون الإشكالات المتعددة والمعقّدة التي تعترض هذا الخيار، إذ إن كلفة استخدام الطاقة المتجددة لتشغيل المكيفات لا تزال كبيرة جداً بالمقارنة مع ما توفره الطاقة الأحفورية. وهي تحتاج، على سبيل المثال، إلى استثمارات في الألواح الشمسية والبطاريات والمحوّلات، تتجاوز كلفتها خمسة آلاف دولار على المستوى الفردي، ما يعني أنها لن تحلّ إلا مشكلة لا تتجاوز 10% من سكان البلدان النامية، وهي الشريحة التي لا تزال تصنّف ميسورة. تضاف إليها مشكلة المساحات الكبيرة من الأسطح أو الأراضي الحرجية أو الزراعية التي ستحتاج إليها الألواح في حال توسّع استخدامها. يضاف الى ذلك عمر هذه التكنولوجيا الافتراضي الذي يتراوح بين خمس سنوات وعشرين سنة في أبعد تقدير، إضافة الى مشكلة استنزاف الأتربة النادرة التي تصنع منها هذه التقنيات وتحوّل مخلفاتها الى مشكلة جديدة بعد نهاية عمرها القصير.
فإلى متى الانتقال من كارثة إلى أخرى أكبر بدل الاعتراف بأن النموذج الحضاري المسيطر الذي عرفناه والذي روّج كثيراً وطويلاً لحياة التقدم والتنمية والرفاهية… تسبّب بكل هذه الكوارث، ولم يعد عادلاً، ولا قابلاً للحياة ولا للبقاء؟
المردة