حاول لبنان منذ تلمّسه نعمة النفط على اقتصادات اشقائه العرب ان يدخل هذا النادي وينتسب الى الدول المنتجة والمصدرة للنفط، لكن لأسبابٍ يتداخل فيها الجيوسياسي مع التقاعس المحلي، تأخر عن ذلك كثيرا على رغم الفاتورة الهائلة التي كان يسددها لاستيراد المحروقات والفيول لحاجات النقل والصناعة والكهرباء. وقد كلفه ذلك الكثير من العجوزات في ميزان المدفوعات سنويا، فيما كانت فاتورة الكهرباء أحد اسباب انهيار العملة الوطنية.
بعد وصول منصة الحفر Transocean Barents إلى الرقعة المستهدَفة ب#التنقيب، على مسافة 120 كيلومترا من بيروت، وتموضعها فوق #البلوك الرقم 9 ومباشرتها التنقيب عن “النعمة” المختبئة تحت الماء، ينتظر اللبنانيون بفارغ صبر وأمل كبير بأن تتكلل عملية التنقيب باكتشاف تجاري، يكون لهم المعين المطلوب بقوة لانتشالهم من “الفجوة” الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشونها حاليا. أمور الاستكشاف وآلياتها تسير وفق المخطط والاتفاق “المدوّل” مع “توتال انيرجي”، ولا معوقات حتى الآن أمام مهماتها أو ارباكات تقنية أو أمنية تؤشر الى عدم الالتزام بالمواعيد والمهل المحددة.
ولكن ما ينتظره اللبنانيون من قاع البحر بشوق كبير يخافون أن ينتهي في بطن حيتان المال والسياسة والسلطة، فالتجربة علّمت “الشعب العظيم” أن لديه دولة وسلطة وطبقة سياسية ماهرة في اضاعة الفرص والثروات، وامتهان الفساد والتحاصص وبيع الاوهام. أما الدولة فلا تزال حتى اللحظة عاجزة عن إقرار قانون يحصّن الثروة السيادية الموعودة ويحمي ايراداتها المنتظرة، لأن مَن هم في السلطة يعيشون حربا صامتة في ما بينهم حول هوية ومرجعية وطائفة ومذهب والولاء الحزبي والسياسي لمن سيتولى ادارة العائدات النفطية.
ما يعزز أمل اللبنانيين بوجود ثروة نفطية في أعماق البحر هو ما يؤكده الخبراء بأن المنطقة الاقتصادية اللبنانية التي تبلغ مساحتها نحو 22 ألف كيلومتر مربع، اي ضعفَي مساحة لبنان البرية، عائمة على ثروة من الغاز وثروات هيدروكربونية. ويذهب هؤلاء الى التأكيد أنه في حال أفضى التنقيب في حقل قانا المحتمل الى نتائج تجارية، فإنها حتما ستكون أكبر من حقل كاريش. أما في الارقام فثمة سيناريوات تعتمد على سعر الغاز وكمياته، ويشير الخبير النفطي قاسم غريب الى أنه وبشكل وسطي، فإن كل تريليون قدم مكعب من الغاز يستفيد منه لبنان بنحو 6 مليارات دولار في حال كان سعر الغاز 10 دولارات لكل ألف قدم مكعب، ونحو 3.3 مليارات دولار في حال كان سعر الغاز نصف هذه القيمة. أما في حال كانت شروط البلوك 9 مثل شروط البلوك الرقم 4، فالأرقام كانت لتكون 7 مليارات دولار كمردود تراكمي لكل تريليون قدم مكعب في حال كان سعر الغاز 10 دولارات لكل ألف قدم مكعب و3.8 مليارات دولار في حال كان سعر الغاز نصف هذه القيمة، وتاليا يظهر هنا الإجحاف اللاحق بلبنان في البلوك 9 مقارنة بالبلوك 4.
ويبني غريب ارقامه على افتراضات عدة منها التكاليف الرأسمالية التي تقدَّر بمليار دولار لتطوير كلّ تريليون قدم مكعب من الغاز، والتكاليف التشغيلية السنوية التي تبلغ 10% من كامل الإنتاج السنوي، وسعر غاز يقارب الـ10 دولارات لكل ألف قدم مُكعب من الغاز، وإنتاج سنوي من الغاز يبلغ 1/15 من الإحتياط، اضافة الى أن احتياطات حقل قانا المحتملة من الغاز تراوح ما بين تلك التي في حقل كاريش و3 أضعاف حقل كاريش (تقريبا).
جواد: لبنان عائم على ثروات هيدروكربونية!
وفي انتظار القرار السياسي والتوافقات الدولية لاعطاء الضوء الاخضر لإصدار تقرير يؤكد وجود الكميات التجارية لبدء التطوير والانتاج، يشير الخبير في اقتصادات النفط والغاز فادي جواد الى ان تأخير اصدار تقرير حفر البلوك الرقم 4 وعدم اكمال حفر الآبار الاستكشافية الاخرى فيه الملزمة، وذلك بناء على العقد ما بين الدولة اللبنانية والكونسورسيوم، ما هو إلا دليل على حجم الضغط الذي يتعرض له ملف النفط والغاز في لبنان، آملا ان لا يتكرر سيناريو “بئر بيبلوس” في حقل قانا مرة اخرى!
يبدو جواد متيقنا من أن لبنان عائم على ثروات هيدروكربونية في بحره وبره، ويقول: “استنادا الى الاكتشافات المحلية التاريخية في سحمر ويحمر من زيوت خرجت من باطن الارض واكتشافات اقليمية ملاصقة لحقولنا في البر السوري، وحقلي كاريش 72 وتيتان الاسرائيليين، اضافة الى الحقول القبرصية افروديت، غلافكوس وكرونوس1 حيث الكميات تجاوزت 4 تريليونات قدم مكعب من الغاز”. وبرأيه أن “المكاسب الاضافية لقبرص بعد عدد من الاستكشافات الواعدة، ما هي الا دليل على وجود الغاز بكميات وافرة في الجانب اللبناني”.
أمام هذا الواقع، يتوقع جواد أن تكون “نتائج الاستكشافات في البلوك الرقم 9 في اواخر تشرين الاول كحد اقصى، مبشّرة وتجارية وتوازي نتائج حقل كاريش الاسرائيلي وحقل كرونوس1 القبرصي، على أن يعقبها تطوير للبئر لمدة سنتين توازيا مع حفر الآبار الاضافية في البلوك عينه للتحكم في المكمن او الوصول الى مكامن جوفية اخرى، قد تكون امتدادا لمكمن غازي اكبر ويفاجئ الجميع بحجمه وكمياته التجارية”. وفي السياق، أمل جواد “استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي الذي اثبت كفايته مع شركة “شل” الاميركية وذلك لتعجيل النتائج والتطوير من 9 شهور الى 7 أيام”.
إلى ذلك، يرى جواد في اعلان شركتي “برايت سكايز” و”جيوكس” البدء بمسح زلزالي ثلاثي الابعاد في البلوك الرقم 8، بادرة ايجابية من ناحيتين: الاولى اقرار اسرائيل بالسماح لعمل مسوحات على الحدود البحرية معها والذي كان محظورا سابقا، والثانية هو اقتناع الشركات الاجنبية ويقينها بوجود هذه الثروة وبكميات تجارية في البلوكات اللبنانية الواقعة في منطقة نفطية وغازية، مشيرا الى ما يسمى wildcatوهو شكل من أشكال الحفر الاستكشافي في عملية التنقيب عن النفط والغاز وإنتاجه والذي يسعى إلى استغلال المناطق غير المؤكدة أو العالية المخاطر، وهو امر غير موجود في البلوكات اللبنانية .
وبناء عليه، أبدى جواد استغرابه لعدم تقدم الشركات العالمية الى جولة التراخيص التي اقفلت في حزيران الماضي، معتبرا أن “ثمة تقصيرا حكوميا وقلة وجود كفاءات في صناعة النفط اللبنانية في تسويق نفسها دوليا وبناء علاقات على مستويات شخصيات واصحاب قرار، اضافة الى عدم تفعيل وزارة الخارجية لعمل الملحقين الاقتصاديين لخرق هذه الشركات ووضع خطط عمل معها لوضعها على سكة تفعيل الدخول في التراخيص الجديدة” .
وشدد على أن “الثروة الهيدروكربونية لا تقتصر على الغاز فقط، بل ستنسحب الى صناعات دولية متطورة مثل صناعة البتروكيماويات التي يشهد الاستثمار فيها نموا كبيرا خصوصا في المصانع العالمية للافادة منها في صناعة الهواتف والصناعات البلاستيكية وغيرها” .
وفيما يكثر الحديث عن ان البلوك 9 في حقل قانا يشكل خشبة الخلاص للبنان من الانهيار المالي، لا يؤيد جواد هذا الطرح، ويقول: “صحيح أن الكمية المتوقعة هي خطوة اولى في طريق دخول لبنان نادي الدول النفطية، ولكن لكي يستفيد لبنان ماليا واقتصاديا بشكل حقيقي يجب ان يكون ثمة خطة نفطية كاملة متكاملة مستندة الى التجارب الدولية لتفيد منها جميع القطاعات التجارية وتطور انتاجيتها بناء على هذا “المولود” الجديد، إذ يجب العمل على بناء بيئة عمل بترولية Ecosystem والبدء بانتاجية جميع البلوكات، إذذاك يمكننا التأكيد أن لبنان انتقل الى مرحلة جديدة في مسيرته الاقتصادية، وتاليا يمكن أن تغير وجه لبنان الحالي كما غيّرت اموال النفط العربية شكل لبنان في ستينات القرن الماضي”…
هل الثروة الغازية قادرة على انقاذ لبنان؟ يجزم جواد بان كميات حقل قانا قادرة على انارة لبنان 24/24، في حال تحويل المعامل الكهربائية الى الغاز. لذا يدعو الى المباشرة بالعمل على هذا الموضوع “لكي نكون جاهزين للثروة الموعودة، مع اهمية العمل على ترخيص بقية البلوكات للشركات العالمية وبدء الانتاج التجاري، خصوصا ان حاجة العالم للغاز ستتضاعف في السنوات المقبلة، مع عدم القدرة على الاستغناء عن الوقود الاحفوري للـ 50 سنة المقبلة، وتاليا هذه فرصة للبنان للافادة من ثروته واعادة اعمار الاقتصاد اللبناني” .
لبنان أمام مرحلة حساسة وحاسمة داخليا ودوليا في شأن هذا الملف، وخصوصا مع وجود استكشافات لحقول جديدة في منطقة الخليج والبحر الاسود، والتسابق على ضمان الحصص في الاسواق العالمية سيخلق نزاعات للوصول الى الصفقات الفُضلى التي ستنعكس على دعم الدول كل بحسب مصالحها وعلاقاتها مع الدول النفطية.
سلوى بعلبكي – النهار