كتب محمد وهبة – الأخبار : في عام 2012 قدّرت إدارة الإحصاء المركزي بالتعاون مع البنك الدولي بأن خطّ الفقر الأعلى كان يبلغ 13 ألف ليرة يومياً للفرد الواحد، أو ما يساوي 1.3 مليون ليرة شهرياً لأسرة مكوّنة من 5 أفراد. أما في عام 2020، فقد ارتفع هذا الخطّ بحسب تقديرات المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق إلى 4.1 ملايين ليرة شهرياً. كذلك أظهرت تقديرات المركز أن خطّ الفقر الغذائي بات يساوي 2.8 مليون ليرة شهرياً لهذه الأسرة، وخطّ الفقر غير الغذائي الذي يشمل الحاجات الأساسية غير الغذائية مثل التعليم والصحة والمسكن والملبس، بنحو 1.23 مليون ليرة شهرياً. هذه التقديرات مبنيّة على دراسة التطوّرات التي لحقت بسلّة استهلاك الأسر في لبنان من دون أي تعديل في أوزان هذه السلّة. أي تعديل يطرأ على هذه السلّة قد يؤدي إلى تغيّرات خطوط الفقر قد لا تكون عميقة وإنّما هامشية، أي أن التقديرات الحالية، بحسب المركز، هي أقرب إلى الواقع الحالي حتى مع التغيّرات التي يمكن إدخالها على وزن استهلاك السلع والخدمات من ميزانيات الأسر.
ما تعنيه هذه التقديرات، أنّ كلّ أسرة مؤلفة من خمسة أفراد يقلّ مجموع دخلها عن 4.1 ملايين ليرة، باتت تصنّف فقيرة، وهي تصاب بالفقر الغذائي إذا كان مجمل ما يمكنها أن تنفقه للحصول على الغذاء أقلّ من 2.8 مليون ليرة شهرياً. ومن أجل استعادة قدراتها الشرائيّة لتغطية حاجاتها الأساسيّة من الغذاء والسلع الأخرى والخدمات (سلّة الاستهلاك)، بات يتوجّب على الأسر أن تعوّض خسارة في دخلها مقدّرة بنحو 2.79 مليون ليرة شهرياً. لا يسهل الحصول على هذا المبلغ في ظلّ أوضاع كهذه، بل قد يكون أمراً مستحيلاً بالنسبة إلى غالبية الأسر التي أصبحت فقيرة أو التي كانت تعاني من فقر مزمن.
هذه التقديرات تتطابق نسبياً مع التقديرات المتعلّقة بارتفاع نسب الفقر إلى حدود 43% (البنك الدولي ومؤسسات أخرى اعتبرت أن نصف اللبنانيين صاروا فقراء) مقارنة مع 28% في السنوات الماضية. هذا يعني أن هناك نسبة كبيرة من الفقراء الجدد غالبيتهم من الأسر التي كانت تعيش على حدود خطوط الفقر السابقة. هؤلاء تأثّروا بالأزمة مباشرة سواء بسبب تدهور قدراتهم الشرائية أو بسبب انخفاض قيمة مداخيلهم الفعليّة أو خسارتها بشكل كامل. كانت هذه النسبة تعيش على هامش خط الفقر الأعلى وعلى الطبقة الوسطى الدنيا، لكنها انزلقت إلى المستوى المعيشي الحالي بعد تدهور سعر الصرف وارتفاع الأسعار وإقفال المؤسسات وتنامي عمليات الصرف من العمل. هنا تظهر ثغرة أساسية في تقديرات الفقر السابقة: لم يؤخذ في الاعتبار أن الفئات الهامشية التي تعيش على طرفي خطوط الفقر والطبقة الوسطى هي سريعة التأثّر بالتحوّلات والتغيرات في الأوضاع الاقتصادية. لا يجب أن نغفل أن الأوضاع الحالية ليست هي الأوضاع النهائية التي ستخلقها الأزمة، خصوصاً أن عملية الإنقاذ ستكون مؤلمة إذا حصلت اليوم وستكون أكثر إيلاماً إذا تأخّرت أكثر، وستكون مؤلمة جداً إذا رضخ لبنان لشروط صندوق النقد الدولي وقام بتوحيد سعر الصرف وبزيادة الضرائب ورفع الدعم الشامل وحصره بفئات مستهدفة.
هذا الأمر يقود مباشرة نحو السجال الدائر حالياً بشأن الدعم. في الواقع، تمكّنت قوى السلطة من تحويل النقاش نحو المفاضلة بين الاستمرار بالدعم المموّل من احتياطات مصرف لبنان وبين حقوق المودعين التي لم يبقَ منها سوى 17.9 مليار دولار لدى مصرف لبنان. فالأجدى في هذه الحال أن يكون النقاش متّصلاً بسياسات الخروج من الأزمة وطرق الإنقاذ المتاحة. هذه الأموال تمثّل الذخيرة الأخيرة (باستثناء الذهب) المتبقيّة لدى لبنان، وبالتالي فإن ترشيد استعمالها سواء في الدعم أو في عمليات أخرى أمر استراتيجيّ وحيويّ. يثير هذا الأمر أسئلة من زاوية قدرة الأسر على الاستمرار من دون الدعم. كما أنه يثير الأمر من زاوية الأهداف التي ستُستخدم فيها الأموال المتبقية؛ فهل يمكن مواصلة الدعم وفي الوقت نفسه التخطيط لعملية الإنقاذ؟ ما هو المبلغ الذي يمكن استخدامه في عملية الدعم؟ أيّ دعم نريد؟ من سيستفيد من الدعم؟ بعض التقديرات تشير إلى أن الكلفة المطلوبة للدعم بعد ترشيده تبلغ 3 مليارات دولار سنوياً بالحدّ الأقصى، بينما يمكن تأمين أنواع أخرى من الدعم عبر التوفير في فاتورة الاستيراد أكثر، أي منع استيراد بعض السلع والخدمات بشكل كامل. لكن إذا استعملنا الـ3 مليارات ماذا سيبقى من أجل إعادة بناء الاقتصاد (هذا إذا صار هناك اتّفاق على نموذج جديد غير السابق القائم على الريع والاستهلاك المستورد)؟ هل يمكن القيام بكلا الأمرين في الوقت نفسه، أي تخصيص 3 مليارات دولار للدعم والسير بآليات إنقاذ تتطلّب مليارات أخرى لبناء نموذج اقتصادي؟
كل هذه الأسئلة يمكن الإجابة عنها من خلال أمرين أساسيين: هل هناك سلطة راغبة وقادرة على بناء نموذج جديد ومساعدة أبنائها في الوقت نفسه على تخطّي الأزمة؟ هل لدينا ما يكفي من الأموال للقيام بذلك؟ عملياً، ليس هناك تأكيد بأن الأموال التي يصرّح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عنها بوصفها قابلة للاستعمال وقيمتها 17.9 مليار دولار هي فعلاً الأموال القابلة للاستعمال، ولا السلطة بآلياتها الحالية المهترئة وبأدواتها الفاسدة ونظامها القائم على توزيع الموارد من أجل استمرار مصالحها الواسعة والضيّقة راغبة في بناء نموذج جديد. ما بات واضحاً هو أن هناك فئة تؤيّد اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، أو إلى الخارج بكلّ أشكاله من الاستدانة المالية إلى الارتهان السياسي، وهناك فئة تؤيّد استمرار النظام السياسي بكلّ أدواته، وبينهما هناك فئة الفقراء السابقين والجدد واللاحقين أيضاً.