البروفسور جاسم عجاقة – الديار
«سويسرا الشرق» في طريقها إلى التتويج بلقب «فنزويلا الشرق»! فكيف وصلنا إلى هذا الحدّ من التراجع؟
سؤال يُطرح كل يوم في الشارع اللبناني وكل مواطن له وُجهة نظره ونسخته من توصيف الواقع. وبغض النظر عن وجهة نظرنا من هذا الواقع هناك حقائق لا يُمكن التنصّل منها. الحقيقة الأولى تتمثّل بعجز واضح من قبل السياسات الإقتصادية في إرساء إقتصاد قوي له من الإستقلالية ما يكفي لضمان الأمن الإجتماعي للمواطن اللبناني. والحقيقة الثانية أن الخلافات السياسية والمصالح الحزبية عطّلت مؤسسات الدوّلة وعبثت بهيبتها. وأما الحقيقة الثالثة فإن هذه الخلافات السياسية سمحت للفساد بالعبث بموارد الدولة إلى درجة تمّ حرق أكثر من 90 مليار دولار أميركي من دون أن يُعرف بالتحديد أن ذهبت هذه الأموال.
إنفجار 4 آب أو ما يُعرف بـ «بيروشيما»، دكّ مداميك المنظومة السياسية في لبنان وهذا ما يُمكن ملاحظته من خلال العجز عن تشكيل حكومة أقلّ ما يُقال فيها هي أكثر من ضرورة ملحة للخروج من هذه الأزمة. ومن ناحية أخرى فإن هذا الإنفجار ما زال يُلقي بتداعياته على المشهد السياسي مع إدعاء قاضي التحقيق العدلي فادي صوان على كل من رئيس الحكومة المُستقيل حسان دياب وثلاثة وزراء سابقين. ونتج عن ذلك كباش طائفي يُظهر غياب الثقة بين المكونات السياسية لهذا البلد على الرغم من ثلاثين عامًا من الشراكة بين هذه الطوائف منذ إتفاق الطائف.
في هذا الوقت، تتوجّه الأمور الإقتصادية إلى الأسوأ مع قرب موعد رفع الدعم والذي سيُشكّل ضربة للمواطن وهو ما يُنذر بفوضى إجتماعية وأمنية كبيرة في وقت تتزايد المواجهات السياسية حول التدقيق الجنائي والذي بدل أن يكون تلقائيًا، تحوّل إلى مادّة للمواجهات بين الأفرقاء السياسيين.
في المُقابل، ينتظر لبنان زيارة الرئيس الفرنسي الثالثة لبيروت منذ إنفجار المرفأ لمعرفة ما يحمل في جعبته من طروحات أو حلول خصوصًا أن هذه الزيارة تتميّز عن سابقاتها بموقف أوروبي مُوحدّ وراء الموقف الفرنسي وهو ما يُشير إلى رسائل قاسية ستوجّه إلى القوى السياسية اللبنانية.
وفي ظلّ هذا التخبّط اللبناني، تقطف «إسرائيل» ثمار المُقاطعة العربية (وبالتحديد الخليجية) للبنان وذلك على الصعيد الديبلوماسي والإقتصادي مع إنضمام المغرب العربي إلى نادي الدول العربية المُطبّعة مع العدو الاسرائىلي وتوقيع العديد من الإتفاقات بين الكيان الإسرائيلي وبين الدول العربية.
هذه الأجواء المتأججة يواكبها العديد من الملفات الشائكة مثل رفع الدعم، عقد سوناتراك، عقد كهرباء زحلة، وتيرة الإصابات بكورونا وكأن كل هذا لا يكفي، فإبتداءً من بعد ظهر اليوم يمرّ منخفض جوّي في الأجواء اللبنانية يحمل في جعبته أمطارًا وثلوجًا ستُصعّب من دون أدنى شكّ على المواطن حياته اليومية.
من الواضح أن بعض المُعطيات طرأت في الملف الحكومي منعت الإتفاق على تشكيلة حكومية على الرغم من أن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس الحكومة المُكلّف كانا قدّ توصّلا إلى توافق على الخطوط الأساسية لعملية التأليف. وبالتالي فإن شيئًا ما أو تدخلا ما من قبل طرف أو أكثر منع هذا التوافق من الوصول إلى خواتم سعيدة. وتُرجّح بعض المصادر أن المصالح الدولية والإقليمية لا تُبدي أي حماس لتشكيل حكومة في لبنان نظرًا إلى أن هذه الأطراف تنتظر تبدّل المُعطيات، وبالتالي، فإن لبنان لن يشهد داخليًا أي تعديل في المواقف قبل وصول إشارات خارجية.
العاصفة التي خلّفها إدعاء المُحقّق العدلي فادي صوّان على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب والوزراء علي حسن خليل، غازي زعيتر، ويوسف فنيانوس، لم تهدأ بعد مع زيادة الرفض السياسي الواسع لهذا الإدعاء الذي إعتبره البعض استنسابيًا إذ إنه لم يشمل كل المعنيين. إلا أنه من الواضح أن هذا الإدعاء وضع عقبات أمام تشكيل الحكومة خصوصًا بعد الإتهامات بتدخلات سياسية في العمل القضائي.
من المُتوقّع أن يزور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بيروت في الثاني والعشرين من الشهر الجاري على أن تمتدّ زيارته على يومين. هذه الزيارة هي الثالثة من نوعها إلى بيروت بعد إنفجار المرفأ الذي خّلف العديد من الشهداء والجرحى والأضرار المادية.
فرنسا التي تُظهر إهتمامًا واضحًا بالوضع اللبناني من خلال دفعها إلى تشكيل حكومة إختصاصيين، إلا أنها وحتى الساعة عجزت عن إقناع القوى السياسية من تأليف حكومة بعد مرور أكثر من أربعة أشهر على الإنفجار. إذًا ماذا سيحمل ماكرون في جعبته هذه المرّة؟
ولو نظرنا الى مجريات الأمور والوقائع الراهنة للاحظنا أنه خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت، طرح الرئيس الفرنسي ورقة للخروج من الأزمة ووافق عليها كل الأفرقاء السياسيين. وتضمّنت الورقة الفرنسية مهلة 4 إلى 6 أسابيع لتشكيل حكومة من الإختصاصيين غير المحسوبين على القوى السياسية، على أن تقوم هذه الحكومة بإصلاحات ضرورية وإستكمال التفاوض مع صندوق النقد الدولي. إلا أن الخلافات السياسية حالت دون تنفيذ الخطّة وهو ما فرض إعتذار الرئيس المُكلّف آنذاك مصطفى أديب.
ومن ثم فإن الوضع الإقتصادي والإجتماعي اللبناني دفع بالفرنسيين إلى عقد مؤتمرين دوليين ذات طابع إنساني لمساعدة لبنان. هذه المساعدات هي أكثر من ضرورية حتى لا يسقط الشعب اللبناني بالمحظور أي المجاعة مع تراجع قدرة الإستيراد وتراجع الإحتياطات من العملات الأجنبية. على كلٍ الشروط الفرنسية والدولية كانت واضحة وهي أن لا مساعدات مالية ما لم يتمّ تشكيل حكومة قادرة على القيام بإصلاحات.
لذا، تتميّز زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون المتوقّعة في 22 من الشهر الجاري عن سابقاتها بموقف أوروبي مُوحدّ خلف المبادرة الفرنسية وتتوقّع مصادر أن يقوم الرئيس الفرنسي بتوجيه رسالة واضحة مفادها أن الإتحاد الأوروبي لن يقف مكتوف الأيدي أمام التأخير في تشكيل الحكومة. وبحسب المصادر فإن هذه الرسالة تحمل في طياتها تهديدًا بعقوبات على الطبقة السياسية سيفرضها الإتحاد الأوروبي في حال إستمرّ الوضع على ما هو عليه خصوصًا أن الفرنسيين حصلوا على معطيات مالية يُمكن من خلالها فرض عقوبات على المعنيين.
الإقتصاد النقدي والفوضى
الأزمة الإقتصادية تحتل المرتبة الأولى في سُلّم أولويات اللبناني، إلا أن لبنان يواجه أزمات عديدة ستُدخل لبنان حكمًا في الفوضى إذا لم يتمّ تدارك الوضع. فبالإضافة إلى الأزمة الإقتصادية، هناك أزمة نقدية، ومالية، وسياسية، وإجتماعية، وقضائية ومن المرجح أن يؤدي تراكمها إلى فتيل مشتعل قد ينفجر أمنيًا في أي لحظة.
على الصعيد الإقتصادي، قاربت الإستثمارات في لبنان الصفر سواء أكانت داخلية أم خارجية. وهذا الأمر يجعل أي نمو إقتصادي متعذراً إذا لم نقل مستحيلاً عملا بالمبدأ الإقتصادي الذي ينصّ على أن «لا نمو من دون إستثمارات». هذا التراجع الإقتصادي يؤدّي إلى زيادة البطالة وفي نفس الوقت إلى تراجع مداخيل المُستهلكين مما يُنذر بإنكماش إقتصادي يتخطّى الـ 25% بحسب التوقّعات.
تداعيات التراجع الإقتصادي تطال أيضًا الشق المالي للدولة اللبنانية التي تراجعت مداخيلها بشكل كبير نتيجة تحوّل الإقتصاد اللبناني إلى إقتصاد نقدي. وبحسب التوقّعات، تبلغ نسبة التعاملات النقدية أكثر من 85% من إجمال النشاط الإقتصادي الداخلي (مع إستثناء الإستيراد) بعد أن كانت هذه النسبة بحدود الـ 36% قبل الأزمة.
الإعتماد على الإقتصاد النقدي مُبرّر من قبل اللاعبين الإقتصاديين بعدم الثقة بالقطاع المصرفي الذي يحتجز أموال المودعين ولكن له وجه سلبي آخر أيضًا وهو التهرّب الضريبي. إلا أن المُشكلة هي أنه لا يُمكن لإقتصاد أن يتطوّر (بالمعنى الإيجابي) بغياب القطاع المصرفي نظرًا إلى الدور المحوري الذي يلعبه القطاع المصرفي في تمويل الإقتصاد. وبالتالي فإن أزمة الثقة بالقطاع المصرفي هي من أولى مهام الحكومة الجديدة مع مصرف لبنان.
الضرر النقدي من الوضع الحالي كبير خصوصًا نتيجة غياب الثقة بالقطاع المصرفي. وبما أن العملة تعكس ثروة البلد، لذا يُلقي الإنكماش الإقتصادي بثقله على الليرة التي أصبحت تُعاني إقتصاديًا بعد أن عانت سياسيًا وماليًا. النظرية الإقتصادية واضحة: ما يضمن ثبات العملة هو الاستقرار والإستدامة في النمو الإقتصادي! من هذا المُنطلق، إحدى أهمّ وسائل الدفاع عن الليرة ينصّ على تحفيز النشاط الإقتصادي «الرسمي»، ومعناه الاقتصاد المنظور والداخل في الحلقة الاقتصادية المتكاملة.
إجتماعيًا تزداد نسبة الفقر نتيجة لإنعدام التوزيع العادل في الثروات. وبالتالي نرى أن غياب الدعم من مصرف (أو بمعنى أخر تحرير سعر صرف الليرة) يحمل في طياته مزيداً من إرتفاع نسبة الفقر التي قد تصلّ إلى أكثر من 80% من الشعب في فترة لا تتجاوز عدة أشهر في حال تمّ رفع الدعم بالكامل.
في الختام، لبنان يحرق الوقت الثمين المتبقي للنهوض من الأزمة الحالية. فهل تنجح نظرية الفوضى الخلاقة ويكون الفرج من نصيب اللبنانيين آخر المطاف، أم…؟