حسن الدر-
الإمام موسى الصّدر استثناء، ولكلّ استثناء قاعدة، وقاعدة الصّدر الخروج عن وعلى أفكار وعناوين ظنّها النّاس حقائق ثابتة، حتّى صارت أصناماً فكريّة وعقديّة، عبدوها لعقود وقرون، فحكمت تصرّفاتهم واستولت على سلوكيّاتهم.
ومثلُ موسى الصّدر لا يرضى بالجمود والتّحجّر واجترار المواقف وتكرار التّجارب، الصّدر قائد، والقائد يكسر الأغلال الفكريّة ويحرّر النّاس من العبوديّة ليأخذ بيدهم نحو آفاق فكريّة ثوريّة، وهكذا فعل!
ولا خلاف في أنّ السّيّد كان خطًّا فاصلًا بين زمنين، وكان الخيط الأبيض الّذي انبلج معه فجر جديد أصبح معه للمحرومين أملٌ وملهِمٌ وقائدٌ وقدوةٌ.
والصّدر الآتي من بيئةٍ نما فكرها ووعيها ولا وعيها على الحرمان والاضطهاد، منذ استشهاد الإمام الحسين (ع) وجد في لبنان مختبراً صالحاً لتفعيل نظريّة جديدة على الخواص والعوام، نظرّية اندماج المسلمين الشّيعة في الدّولة بوصفهم مواطنين لهم ما لغيرهم من حقوق وعليهم ما عليهم من واجبات.
صحيح أنّ دولاً للشّيعة قامت في التّاريخ بدءاً من الفاطميين في مصر والدولة الحمدانية في سوريا والعراق والعلويين بالديلم والأدارسة في المغرب والبويهيين في العراق والدولة الصفوية في إيران إلّا أنّ تلك الدّول كانت تقوم على ارتباط المفهوم السّياسي بالمفهوم الدّيني تحت سلطة واحدة وهي سلطة الإمام, ويقوم معظم فكرهم السّياسي حول مفهوم الإمامة، ولا فصل عندهم بين الدّين والدّولة، لذلك ذهب عموم الشّيعة إلى القول بعدم شرعيّة أي دولة بغياب المعصوم (قبل أن يطبّق الإمام الخميني نظريّة ولاية الفقيه).
الفتح الّذي فتحه الإمام الصّدر كان بدعوة الشّيعة إلى الإنضواء تحت لواء الدّولة الوطنيّة، دولة يرأسها مسيحي ذات حدود معروفة ومرسومة بقرار أممي تحتكم إلى دستور وضعيّ مدني، والشّيعة فيها كما السّنّة والمسيحيين تحت القانون والدّستور من دون أي امتياز أو تمايز!
قدّم الإمام الصّدر رؤيته في زمن الصّحوة الإسلاميّة، وفي زمن تطوّر الفكر الشّيعي الثّوري على يد اثنين من أبرز القادة الثّوريين إلى جانبه.
فالإمام الخمينيّ كان في الوقت عينه ينظّر لـ «ولاية الفقيه»، والسّيّد محمّد باقر الصّدر كان ينظّر لفكرة «الحكم الشّوري» فمسألة الحكم والدّولة، وإقامة دولة إسلامية عصر الغيبة، وشكل وطبيعة هذه الدولة، ومدى ضرورتها، وآلية إقامتها، من أكثر المواضيع جدليّة وحساسيّة على الصّعيدين الفقهي والسّياسي حتّى يومنا هذا.
فكرة الإمام الصّدر مقبولة ومسوّغة وطبيعيّة اليوم، لكن في زمانه كان الطّرح غريباً ومرفوضاً وحراماً شرعاً، لذلك تعرّض الإمام لحملات تشويش وتشويه قادها رجال دين تقليديين ألقوا عليه اتّهامات ما أنزل الله بها من سلطان.
وجد الإمام في لبنان مختبراً إنسانيًّا، حيث يعيش اللبنانيون انقساماً مزمناً حول هويّة الوطن وشكل النّظام ونموذج الكيان، فمنذ تأسيس «لبنان الكبير» لم يستطع أحدٌ أن يُقدم طرحاً يُحاكي هواجس العقدة اللبنانية القائمة على اختلال موازين القوى بين حين وآخر، وفقدان الثّقة بين المكوّنات الطّائفيّة، ناهيك عن ارتباط تلك المكوّنات بدول إقليميّة ودوليّة ثقافيًّا وسياسيًّا.
رأى السّيّد في هذه التّحدّيات فرصة، فآمن بالكيان اللّبناني، وراهن عليه باعتباره نموذجاً لحوار الحضارات وتلاقح الثّقافات، ولطالما تباهى بالتّنوّع الطّائفي باعتباره غنى للبنان محذّراً من استغلاله لمآرب سياسيّة، فقال: «الطّوائف نعمة والطّائفيّة نقمة» وقال في مناسبات أخرى: «الطّائفيّة في لبنان بحث سياسيّ وليست بحثاً دينيًّا» ليفرّق بين إنسانيّة المواطن وطائفيّة الحاكم، فالبسطاء تأخذهم الشّعارات العاطفيّة الّتي تشدّ عصبهم المذهبي، وتحوّلهم إلى أرقام في حسابات السّلطة والأحزاب.
ميزة الإمام الصّدر أنّه لم يحبس أفكاره بين دفّات الكتب، بل ترجمها عمليًّا بين النّاس ومعهم، فحين اشتكى إليه «العم أنتيبا»، المسيحيّ الصّوريّ، عزوف المسلمين عن تناول «البوظة» من محلّه بحجّة أنّ «أكل المسيحي حرام» لم يفتِ بحلّيتها من على المنبر، بل دعا المصلّين إلى محلّ «العمّ أنتيبا» وسار أمامهم، ولمّا وصل طلب منه أن يضع له طاولة على قارعة الطّريق ليأكل ويراه النّاس، فكان لسلوكه العمليّ وقعاً أكبر وتأثيراً أعمق وصار محلّ «أنتيبا» مقصداً وعنواناً للعيش الواحد الّذي عمل عليه الإمام بصدق وقناعة.
ولأنّ الإمام الصّدر يؤمن بأنّ «جوهر الرّسالات واحد، والهدف منها واحد» وأنّ «جميع الأنبياء رسل ربّ واحد، إلى إنسان واحد، يدعون إلى رسالة واحدة، هي رسالة الله» آمن أيضاً بأنّ الحضور المسيحي في لبنان علامة مائزة له ونافذة ثقافيّة على الغرب وحضارته، يقول لمجلّة «كل شيء» في ١٤ شباط ١٩٧٦، في عزّ الانقسام الإسلامي – المسيحي: «إنّ المسيحيين هم إخوان لنا في الإيمان وفي الوطن وفي العروبة، نتمسّك بأخوتهم ونلتزم بالعلاقات المواطنية الصادقة معهم، ونعتبر أن وجودهم الى جانبنا في لبنان هو تمايز لبنان، وهو ضرورة عربية كما كان يقول المغفور له الملك فيصل، إنه لو لم يكن لبنان بصورته الحالية لكان من الواجب على العرب وعلى المسملين إيجاده».
ولأنّه استشعر خطر التّقسيم والفدرلة الّذي يناسب الكيان الصّهيوني العنصري، حذّر من سقوط التّجربة اللّبنانيّة فذلك سيشكّل خسارة للإنسانيّة جمعاء، فصرّح في حوار مع وفد نقابة المحررين (18/1/1977): «علينا أن نتمسَّك بوِحدة لبنان، واستقلال لبنان، وانْسِجام لبنان مع المِنطقة، وصِيانةِ هذا الكيان اللبناني الذي هو أمانةٌ للحضارةِ العالمية».
وكأنّه حاضر بيننا اليوم يعيش مأساتنا الّتي لا تنتهي ويشخّص داءنا الّذي لم يبرأ، كان الإمام حاسماً بأنّه «لا يمكن إصلاح النّظام السّياسي عبر طائفة أو عبر ثنائيّة طوائفيّة، وأنّ التّغيير الحقيقي لا يمكن أن يتمّ إلّا بتكوين حاملة اجتماعيّة من كلّ المحرومين في الطّوائف وعبر الدّعوة إلى قيام دولة مدنيّة عادلة وقادرة تصل بين المركز والأطراف».
وكأنّه بيننا اليوم، يسمع ويرى ويتفاعل مع قضايانا، ابتكر نموذجاً وسطاً بين اثنين متطرّفين، عندما رفض الدّولة الدّينيّة، مسيحيّة كانت أم إسلاميّة، لأنّها لا تنسجم مع طبيعة تكوين المجتمع اللّبناني وشبّهها بالفرد المتعصّب دينيًّا، ورفض أيضاً الدّولة العلمانيّة لأنّها تقضي على روحيّة الإيمان الشّرقي وعاداته وتقاليده، وشبّهها بالفرد الملحد، واختار نموذجاً ثالثاً أسماه «الدولة المؤمنة، بمعنى أنّ الايمان بالله وما يلازمه من التزام بالقيم يكون قاعدة بناء المجتمع، أي أن تبنى المؤسّسات والأنظمة والقوانين ومختلف العلاقات القائمة بين الفرد والفرد، وبينه وبين الدّولة، وبينهما وبين الدول الأخرى، أن تبنى هذه كلها على أساس الايمان».
بتجرّد وموضوعيّة، وبعيداً عن شرف الانتماء إلى فكر الصّدر ونهجه، لم يستطع أحدٌ، على مدى خمسين عاماً، أن يسبق موسى الصّدر إلى فكرة أو يسدّ مكانه، ولم يجترح العقل اللّبناني حلًّا لقضيّة أفضل ممّا اجترح عقل موسى الصّدر!
وبعد خمس وأربعين عجافاً ما زال قمح الإمام الصّدر يُغاث به النّاس كلّما داهم القحط مواسمهم، وما زال الإمام الجميل في جبّ أخوته والسّيّارة قد أضاعوا الطّريق.
ولم يزل «آمون» في معبد الطّوائف والكهنة باسم الإله يسرقون الغلال، ويستغلّون البسطاء ويعمّمون الجهل ليعتاشوا على البدعة والخرافة والتّخلّف!