ليس من المبالغة القول أن نشر العديد من المصارف اللبنانية تقارير عن ميزانياتها الرابحة، أقرب الى مشهد سوريالي في ظل الخسائر الطائلة التي تكبدتها جراء الازمة والتي جعلت معظمها مفلساً أو على حافة الافلاس، في ظل غياب أي حل حقيقي للأزمة المالية والنقدية المندلعة منذ نحو 4 سنوات. هذه السوريالية تكمن في نقطتين، الاولى أن المصارف تعيش حالة انكار(عن قصد وربما عن خبث) لأبسط قواعد ومعايير المحاسبة الدولية التي تؤكد لو طبقت انها خاسرة ومفلسة، والثانية أنها تعلن للمودعين عن تحقيقها ارباحاً لكنها في الوقت نفسه تمنعهم من الحصول على اي فتات من جنى أعمارهم.
كيف يفعلون ذلك؟
ومن هنا يجدر السؤال كيف تجني المصارف ارباحاً اذا كانت مفلسة، وعما اذا كانت شهادات الايداع التي لها في المصرف المركزي في حالة تعثر ولا تتقاضى مقابلها المخصصات اللازمة، واذا كانت الدولة اللبنانية متوقفة عن سداد سندات اليوروبوندز ولا تتقاضى المصارف أيضا مخصصات مقابلها بشكل كامل ونهائي، فضلاً عن أن قروض القطاع الخاص متعثرة ولا بد للمصارف من تعويضها من رساميلها واحتياطياتها واموالها الخاصة، وهذا كله لا يحصل؟ وما الارباح التي تعلن الا بتواطؤ مريب ومشبوه من مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، الا ان تلك الارقام لا تعبر فقط عن تأخر في هيكلة المصارف بل ايضاً عن نصب واحتيال وفقاً للمعايير الدولية!
في المقابل لا بد من الاشارة الى أن المصارف جنت أرباحاً من صيرفة، وتجني ارباحاً ايضاً من العمولات التي فرضتها على كل العمليات والمعاملات المصرفية، ومن خلال احتساب ميزانياتها على دولار 15 ألف ليرة. بمعنى آخر، المصارف تربح نتيجة تأخير اعادة هيكلة القطاع المصرفي وتستفيد من «الهيركات» على السحوبات ومن تساهل مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف على أدائها، في حين أنها في الحقيقة يجب أن تكون مفلسة.
مصارف خسرت رساميلها عدة مرات
يشرح رئيس مجلس إدارة I&C Bank جان رياشي لـ»نداء الوطن» أن «الاشكالية الاساسية هي أن الحجم الاكبر من موجودات المصارف هو ودائع في مصرف لبنان. وحتى اليوم لا يطلب منها أخذ مؤونات مقابل ذلك. وجميعنا يعلم أنه (أي المركزي) لا يملك الدولارات التي يجب اعادتها للمصارف. والارقام اظهرت انه لا يملك سوى 7 مليارات دولار (في الاحتياطي)، بالاضافة الى موجودات وعقارات وذهب»، مشيراً الى أنه «اذا احتسبنا الفرق بين ما يملكه مصرف لبنان من موجودات وما عليه من ديون نستنتج ما يسمى الفجوة. ومن المفروض على المصارف أن تحتسب المؤونة التي تدخل في حسابات الخسارة والربح، بأنها خسارة لأنها تعلم أن هذه الاموال غير موجودة ولن تتمكن من استردادها قريباً. وطالما أنه لم يتم تبليغ المصارف بانه لها الحق في عدم رد اموال مودعيها، فهذا يعني أنها خاسرة بالمعايير المحاسبية الدولية، بل خاسرة لرأسمالها أكثر من مرة».
حساب كم يدخل… وكم يخرج
يضيف: «مبدئيا معظم المصارف خاسرة. والاكثرية الساحقة منها تصرّح عن أرباح لأنها لا تعتبر أن عليها رد الودائع للناس، علماً أن عليها أن تعلن افلاسها لأنها لا تستطيع رد الودائع وتملك موجودات لا يمكنها تحصيلها»، مشدداً على أن «المصارف تعمل اليوم من دون رساميل ومن دون تطبيق للمعايير الدولية التي تجبرها على افتراض أن هناك خسارة محتملة لموجوداتها في مصرف لبنان، وتحتسب فقط كم يدخل المصارف من اموال وكم يخرج منها والفرق هو ربح».
بانتظار قوانين لا تأتي
ويرى أن «الاشكالية الكبيرة التي لا تحل الا من خلال القوانين التي تضعها الحكومة ويصوّت عليها في مجلس النواب، هي التي تحدد مسؤولية رد الودائع من قبل الحكومة والمصارف. ومن دون هذه الطريقة لا يمكننا ان نعلم الخسارة والربح في المصارف التي لم تأخذ مؤونة كما يجب على موجوداتها في مصرف لبنان، وهذا الاخير في حالة افلاس فكيف يجب أن ترد هذه الاموال؟ هذا السؤال يجب أن تجيب عليه الحكومة».
لا للإفلاس الجماعي غير المنظّم
يوضح رياشي أن «المصارف عليها الاعلان عن ميزانياتها السنوية، والمسؤولية هنا لا تقع عليها فقط بل على السلطات العامة سواء أكان مصرف لبنان او الدولة اللبنانية اللذين لم يضعا الحلول لافلاس القطاع المصرفي اللبناني»، مشدداً على أن»الافلاس الجماعي غير المنتظم للمصارف غير سليم. والحل الانجح هو ما قدمه نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، أي قانون اعادة هيكلة المصارف المرتبط بقانون اعادة الانتظام المالي. لأن اعادة الانتظام المالي سيضع اعادة هيكلة المصارف على سكة الحل والتنفيذ، ويكون الاطار التنظيمي بعد أن يتم توزيع الخسائر أي: من سيدفع للمودعين وما هي النسبة التي عليه تحملها؟ عندها يمكن تحديد التزامات المصارف تجاه المودعين، والتزامات مصرف لبنان تجاه المصارف سواء عبر الليلرة أو أسهم في المصارف ومن خلال وعد صندوق يتحدثون عنه لذلك».
حسابات الدكنجية ودولار بـ 15 ألف ليرة
ويشير الى أن «هذا يعني اخراج الودائع المحجوزة من ميزانية المصارف. وطالما لم يتم ذلك فالوضع جامد، والمصارف مجبرة على اصدار ميزانياتها. وجوهر هذه الميزانيات هو أنه بالرغم من امتناع المصارف عن دفع الودائع وبالرغم من خسارة أموالها (اي المصارف في مصرف لبنان) يتم غض النظر عن هذين الامرين ويتم وضع حسابات اقرب الى مبدأ الدكنجية». ويختم: «هناك اشكالية ثالثة لكن أقل أهمية، وهي أن الميزانيات تبنى على أساس موجودات المصارف باللولار أو وفقاً لدولار 15 الف ليرة. فكل هذه الميزانيات خطأ ولا معنى لها».
إجراءات للتأقلم و»الربح»
من جهته يوضح الخبير الاقتصادي صلاح عسيران لـ»نداء الوطن» أن «الارباح الجديدة للمصارف جاءت بعد تأقلمها مع واقع ما بعد انكشاف الازمة في 2019، ونتيجة تخفيض رواتب كثير من موظفيها وتقليص أعدادهم واقفال عدد كبير من فروعها، ورفعها بشكل مبالغ فيه نسبة العمولات التي تتقاضها لقاء الخدمات المالية التي تقدمها لعملائها (ايداع شيكات/ تحويلات…)»، لافتاً الى أن «عدم قدرة العملاء على ايجاد بديل عن المصارف في الوقت الحاضر، وكون الرقابة عليها غير دقيقة كما يلزم، استطاع العديد منها جني أرباح كبيرة. لكن هذه الارقام مرحلية ولمدة عام ولا تعالج او تحدد اي مصرف يمكنه الاستمرار واي مصرف آخر سائر نحو الافلاس والاقفال».
مفلسون مفلسون… بالمعايير الدولية
يضيف: «الالتزامات الموجودة على المصارف، والتي في معظمها غير قادرة على تلبيتها للمودعين، لا يمكن ان تسدد من دون حل كبير جداً في البلد عن طريق اعادة هيكلة المصارف والتدقيق في حساباتها وخطة اقتصادية متكاملة وجديدة، وخطة توقيع الاتفاق مع صندوق النقد. ولا يمكن لأي أرباح تجنيها المصارف أن تتمكن من رد اموال المودعين»، مشدداً على أن «هذه الفترة الاستثنائية تجني خلالها المصارف أرباحاً استثنائية ولكنها لا تحل واقع العمل في لبنان. وفقا للمعايير المحاسبية، واذا تم احتساب فترة من الزمن هي عام، المصارف تحقق ارباحاً، ولكن اذا تم اعتماد المعايير المحاسبية الدولية من المستحيل تصنيفها بأنها رابحة». ويختم: «المصارف تلعب في الوقت الضائع وفي غياب الحلول، علماً أننا بحاجة ماسة لنظام مصرفي سليم كي لا «يذهب الصالح بعزا الطالح»، وليتمكن الاقتصاد اللبناني من النهوض يلزمه قطاع مصرفي لا غبار عليه».
باسمة عطوي- نداء الوطن