حسن الدر-
«ما دخلت السّياسة في شيء إلّا أفسدته» مقولة مأثورة تدلّ على تأثير مواقع السّلطة والنّفوذ في النّفوس، لكن ليست كلّ النّفوس واحدة، فثمّة نفوس أبيّة تربّت على قِيَم التّواضع والوفاء والثّبات على المواقف، وتلك نفوس قليلة في بلادنا، حيث يكثر الفساد ومظلّات الحماية الطّائفيّة والحزبيّة وتغيب المحاسبة والمحاكمة!
قد لا يعرف كثير من اللّبنانيين النّائب السّابق عبد المجيد صالح الّذي انتخب لدورتين متتاليتين (2005 – 2009) عن حركة أمل في قضاء صور، فإعلامنا المصون لا يسلّط الضّوء على الشّرفاء ونظيفي الكف، وأبو حسن لا يحبّ الظّهور، ولا يتقن فنّ التّحريض الطّائفيّ والخطابات الموتورة، ولا يهتمّ لـ «ترند» الشّهرة على حساب السّلم الأهلي ومصلحة البلاد العليا، لكنّ أهل الجنوب يعرفونه عن ظهر حبّ، ويحفظون تقاسيم وجهه ونبرة صوته وكلماته الّتي لم تحِد يوماً عن بوصلة المقاومة والمطالبة بالعيش الكريم والعدالة الاجتماعيّة وصون الوطن من مطامع العدوّ الإسرائيليّ، فلم يترك منبراً جنوبيًّا إلّا واعتلاه صارخاً باسم اللّبنانيين جميعاً مطالباً بما طالب به الإمام موسى الصّدر.
ومن المفارقات اللّبنانيّة أنّ بعض حديثي النّعمة كانوا يعيبون على «عبد المجيد صالح» بأنّه «لم يتطوّر»، يقصدون بذلك التزامه الفقراء وهمومهم، ومحافظته على نمط حياته كالمعتاد، حتّى لباسه وسيّارته وبيته؛ والحمد للّه أنّه لم يتغيّر، فقد بقي قرويًّا ترابيًّا كما كان قبل المسؤوليّة الحركيّة وقبل النّيابة والسّلطة والجاه الّذي لم يغره ولم يغيّره ولم يأخذ به إلى حيث يبتغي العائبون!
من المفارقات الغريبة أيضاً أنّه تأخّر ذات يوم عن الوصول إلى بلدتي (مجدل زون) ليقوم بواجب العزاء، ولمّا تواصلنا معه اعتذر عن التّأخير، كانت سيّارته متوقّفه على طريق بلدة «المنصوري» بسبب نفاد خزّانها من البنزين، يومها استغرب الحاضرون، فكيف لنائب أن يحصل له موقف كهذا، أمّا أنا ومن يعرفه فلم نستغرب لأنّنا نعرف بأنّه مديون، كان «يتديّن» من الصّيدليّات ليشتري أدوية للفقراء، وكانت تتراكم عليه ديون لكثير من البقالات والملاحم يسدّدها، أو جزءاً منها، مطلع كلّ شهر!
نعم، عبد المجيد العنصر الحركي هو نفسه عبد المجيد القيادي الحركي وهو نفسه عبد المجيد نائب الأمّة وهو نفسه عبد المجيد النّائب السّابق!
وهذه مأثرة كبيرة تفرّد بها قدوته الإمام عليّ بن أبي طالب، حتّى قال فيه أحد المفكّرين: «ميزة عليّ (ع) أنّه في الحُكم كما في المعارضة، لم يتغيّر»!
عبد المجيد صالح كان لبنانيًّا عفويًّا في كلّ حالاته، كنّا نجده في زوايا المسجد يقرأ القرآن قبل وبعد الصّلاة، وفي الكنيسة يقوم بواجباته في المناسبات المسيحيّة، وكنتَ تراه جالساً على كرسيّ خشبيّ على باب دكّان عتيق في سوق مدينة صور القديم، يرتشف القهوة على الرّصيف مع عامل بلديّة، أو عاكفاً، مع عجوز يتّكئ على عمره، يتذاكر معه حكايا الإمام موسى الصّدر وابنته «أمل» ويستعيد زمن الشّهداء والأوفياء الّذين كتبوا زماننا، وإذا تيسّرت معه تناول «صحن فول» في مطعم شعبيّ مع مَن وجِد، ولطالما نبّهنا إلى وجوده، يبتدئُ المارّين السّلام ويسأل عن أحوالهم ثمّ يدعو لهم بالخير والتّوفيق.
وكان يسبق المشيّعين إلى الجبّانة في مدينة صور والقرى المحيطة، وإذا تعذّرت عليه المشاركة في «الأجر» يقصد بيت العزاء أو الحسينيّة في الأسبوع، ويذهب، دون تكلّف، ليجد له مقعداً في الصّفّ الثّاني أو الثّالث وربّما الأخير، فلا فرق عنده ما دام عبد المجيد هو هو، لكنّ النّاس تأبى إلّا أن تقدّمه لعلمهم بتاريخه وتضحياته وصدق ولائه لهم ولقضاياهم.
عند تغييب الإمام موسى الصّدر أطلق عبد المجيد لحيته، وحلف ألّا يقصّرها حتّى عودة الإمام، لكنّ الغيبة طالت، واللّحية أبيضّت، ودخل صاحبها قبّة البرلمان ووفى بوعده حتى الوفاة!
مات عبد المجيد صالح لكنّ وجهه سيبقى شاهداً علينا، وسيبقى صوته يؤنّب ضمائرنا كلّما تشعّبت بنا السُبل ليدلّنا على درب موسى الصّدر ورفاقه محمّد وخليل وداوود وشمران والقافلة الّتي قادها الأخ نبيه برّي، كما يحلو له أن يناديه..
«ما حدا ماخد معه شي إلّا محبّة النّاس» عبد المجيد صالح لم يكن عنده شيء ليأخذه معه سوى محبّة النّاس، حيًّا وميتاً، هكذا عاش فقيراً ومات غنيًّا بخلاف أهل الدّنيا وأكثر أهل السّلطة الّذين عاشوا أغنياء وماتوا فقراء!