تناول “الموقف هذا النهار” يوم أمس، استناداً الى تحليل بحثي لمركز أبحاث أميركي موجود في عواصم الدول الكبرى كما في العواصم الإقليمية المهمة، تناول دور قطر التوسطي بين الولايات المتحدة وإيران الإسلامية من جهة وحركة “طالبان” الحاكمة أفغانستان من جهة أخرى وفنزويلا نيكولاس مادورو من جهة ثالثة. انتقل بعد ذلك الى الدور التوسطي الذي قامت به هذه الدولة العربية الخليجية الصغيرة والغنية جداً في لبنان فأنهت شغوراً رئاسياً باتفاق “الأقطاب” المجتمعين في الدوحة على انتخاب رئيس للدولة وعلى قضايا أخرى تتعلّق بانتخابات نيابية مقبلة وباستعادة الأمن في العاصمة والبلاد وبتأليف حكومة جديدة.
طبعاً يفرح اللبناني لنجاح دولة صغيرة تواجه تحديات في محيطها العربي بل الخليجي في المحافظة على نفسها يوم تعرّضت لحصار شديد من شقيقاتها وكادت تخسر حريتها واستقلالها لولا الوجود العسكري الأميركي على أرضها، كما لولا توظيفها علاقتها الناجحة مع دولتين إقليميتين مهمتين مرشّحتين لأن تكونا ركني ثلاثي سيكون عماد نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط. الدولتان هما تركيا السنّية وإيران الشيعية. وقد بادرت الأولى الى إرسال مئات من جنودها أو ربما أكثر على دفعتين الى الدوحة، أما الثانية فقد فتحت مع الأولى المخازن بل المستودعات لتزويد قطر المحاصرة بكل ما يحتاج إليه شعبها وخصوصاً بعدما فرغت رفوف “سوبرماركتاتها” خلال وقت قصير. لكن السؤال الذي يحاول اللبناني والعربي كما الأجنبي إيجاد جواب عنه هو: ما هي مهمة الوسيط؟ هل هي إقناع المتخاصمين أو الأعداء بالاجتماع والحوار لحل المشكلات التي تفرّقهم أم هي تقديم محفّزات لبدء الحوار ثم لإنجاحه مثل طرح مشروعات قد تكون مساعدات مالية أو قروضاً بفوائد متدنية أو مشروعات مشتركة، كما مثل الغوص مع المختلفين في طرح اقتراحات عملية لحلول ممكنة والإسهام في تدوير الزوايا؟ الجواب عن هذا النوع من الأسئلة يختلف بإختلاف المشكلة وأطرافها وأحجامهم. فالتوسط بين أميركا وإيران مثلاً قد يقتصر على الأرجح على استضافة الحوار، والأمر نفسه في حوار بين أميركا وفنزويلا، علماً بأنه في الحال الثانية تستطيع قطر إقناع فنزويلا بالتجاوب مع اقتراح تعاون بينهما، وهما دولتان نفطيتان وغازيّتان كبيرتان. ومن شأن ذلك بعد موافقة أميركا عليه تعزيز فرص التوصل الى تسويات جزئية يمكن استكمالها مع الوقت.
انطلاقاً من ذلك فإن السؤال الذي يطرحه اللبنانيون على أنفسهم اليوم هو: هل كان دور قطر التي استضافت زعاماتهم وقياداتهم السياسية والحزبية الكبرى في الدوحة عام 2008 تأمين مكان للحوار وتوفير مناخات جيّدة له أم تجاوزت ذلك الى اقتراح حلول أو تسويات أو جزئيات من شأنها التقريب بين المتحاورين ومساعدتهم على التفاهم؟ الجواب الاستنتاجي عن هذا السؤال بل المبدئي هو أن المسؤولين القطريين وفي مقدمهم رئيس دولتهم في حينه حمد بن خليفة آل ثاني وربما وزير خارجيته، كانوا يعرفون من خلال متابعتهم الوضع في لبنان تطوراته بشيء من الدقة، وكان بإمكانهم التدخّل تسهيلاً للتوصل الى تسويات للمشكلات الصغيرة والكبيرة. لكن لم يكن في إمكانهم الذهاب بعيداً على هذه الطريق تلافياً لخسارة ثقة الأطراف ولعدم التحوّل طرفاً في الخلافات. علماً بأنهم كانوا كلما لاحت فرصة توافق أمامهم يندفعون لتعزيزها. لكنهم لم يذهبوا أبعد من ذلك رغم استمرارهم في الضغط على الأفرقاء للتفاهم. وهم أصرّوا على نجاح مؤتمر الدوحة وضغطوا في هذا الاتجاه وأبدوا استعداداً لتقديم المساعدة اللازمة في الإقناع وفي التنفيذ لاحقاً وبكل أنواعها. في النهاية حقّقوا هدفهم وخرج مؤتمر الدوحة برئيس لبناني وبمشروع قانون انتخاب وبتهدئة “الشوارع” اللبنانية وبتسويات معيّنة لقضايا خلافية. الدليل الأكبر على اقتصار دور الدوحة على الإغراء بالمساعدات وغيرها باقتراحات عمومية هو أن نجاح المؤتمر حصل في الثانية فجراً من آخر يوم محادثات بعد حصول رئيس “التيار الوطني الحر” العماد ميشال عون على تعهد بجعل الأشرفية دائرة انتخابية واحدة بعدما كان الميل هو الى بيروت العاصمة دائرة واحدة.
ما الجيد وما السيئ في مؤتمر الدوحة؟ الجيد معروف، ملء شغور رئاسي وانتخابات مقبول قانونها. أما السيئ وهو كثير فمعروف أيضاً لكن لا أحد يعترف بذلك. أول السيئ أن الدوحة لم يعدّل الطائف لكنه تجاوزه كما أنه لم يؤسِّس طائفاً جديداً. وثاني السيئ هو أن تنفيذ القرارات عطّل الطائف علماً بأنه لم يكن منفّذاً كما يجب وغير مكتمل التنفيذ. وثالث السيئ أنه خفض مرتبة رئيس الجمهورية من رئيس للبلاد وحكم بين “شعوبها” الى سياسي له ممثلون في الحكومة مثلما للحزب الذي يستند إليه. وبذلك صار جزءاً من سلطة تنفيذية حصرها اتفاق الطائف بمجلس الوزراء مجتمعاً. ورابع السيئ بدعة “الوزير الملك” الذي يمكن أن يستخدمه الفريق الأقوى لفرط الحكومة وبدعة الثلث المعطّل. وكان معطّلاً فعلاً.
لماذا هذا الكلام اليوم؟ ليس هدفه قطع الطريق على رغبة قطر في رعاية حلّ للشغور الرئاسي وللمشاكل الأخرى القاسية التي يعانيها لبنان فهو يحتاج إليها مثل حاجته الى السعودية بل الى مجلس التعاون الخليجي كله. لكن ليس من حقها الدخول في عمق اللعبة اللبنانية وتزكية شخص معيّن للرئاسة. والاعتراض ليس على تشليح اللبنانيين دورهم لأنهم لم يمارسوه يوماً فعلياً وتركوه للناخبين الكبار الإقليميين والدوليين، بل على التنافس مع الدول الأكبر منها دوراً وحجماً سياسياً واقتراحاً لرئيس للبنان، أو بالأحرى في التحوّل طرفاً داخلياً في أزمة الانتخابات الرئاسية.
سركيس نعوم – النهار