لا يزال مصرف لبنان في عين المتابعة السياسية والقانونية، إلى جانب المالية والاقتصادية. ولا تزال عيون المتربصين إما شراً وسياسة، أو لطموح مثابر لمعرفة الخفايا والخبايا الراقدة في حسابات وأوراق المركزي، التي تشرح بشكل مفصل وواضح ما حدث، وكيف، ومن المسؤول، وحجم الخسائر، ومنطلق بنيتها، وصولاً إلى إزالة اللثام عن الكثير من الملفات الاتهامية التي سيقت ضد مصرف لبنان وإدارته إبان ولاية رياض سلامة.
“ألفاريز أند مارسال”، التي تكفلت بالتدقيق، بعدما كلفتها الدولة بالتحقيق، لم يشف حبر تقريرها غليل المتعطشين إلى الأجوبة عما حصل. وهي بدورها لم تجد من ضرورة في شرح وتوضيح ماهية مهمتها بالتفصيل، وأثارت الالتباس والارتباك يوم أصدرت تقريرها الذي ضاع توصيفه بين مسوّدة أولية أو تقرير نهائي، وأفضى ذلك إلى اشتباك سياسي بين متهم للحكومة بلفلفة مضمونه من جهة، وبين قوى حزبية وسياسة من جهة أخرى، ترى أن لا جديد فيه، ومحتواه لا ولن يغير في واقع الأمر شيئاً.
لكن اللافت في ما أورده التقرير، هو تناقضه مع تقارير عدة لشركات تدقيق دولية، عملت سابقاً مع مصرف لبنان، ومعه، وبتكليف منه، معروفة بمهنيتها وصدقيتها، ما أجّج اشتباكاً من نوع آخر، بين الشركات المعنية من جهة، ومع “ألفاريز” من جهة أخرى، حيث سُرّبت معلومات عن اشمئزاز لدى تلك الشركات، بسبب ما اعتبرته طعناً بمصداقيتها وشفافية أدائها.
أما زبدة الخلاف فهي مع خبراء المال والنقد، حول امتناع مصرف لبنان طوال السنوات التي سبقت الأزمة، عن قيد خسائره، أسوة بما تفعله أكبر المصارف المركزية في العالم، استناداً إلى ثقافة ومذاهب محاسبية ومصرفية تعتمدها، وفي طليعة هؤلاء البنك الفيديرالي الأميركي، والبريطاني، والأوروبي وغيرهم.
وحيث اعتبرت الفاريز، أن ذلك ارتكاب وإخفاء للحقيقة، رأى آخرون أنه علمي ومهني، وخدم الاستقرار النقدي والمصرفي حينه، ومنع حصول “حفلة جنون” شعبية تطيح بكل شيء.
بين هذا وذاك، وبين المدارس المحاسبية المتعددة والمتبارزة، وفلسفات الأرقام وفذلكاتها وشروحها، لم يخرج لبنان من ثقافة “الأرقام في لبنان وجهة نظر”، ولن يخرج، لأن جماد الرقم، ووضوح معناه وقيمته، لا يلغي أنه مأمور وممسوك، بقبضة السياسة التي تطوّعه كما تريد، وتزيده أو تتقصه وفق مصالحها، وتدوّنه صفراً نظيفاً لماعاً إذا شاء أهلها، أو مليوناً منهوباً مسروقاً مهدوراً، إذا التقى ذلك مع أهدافهم.
في التفاصيل، أظهرت شركة “ألفاريز ومارسال” وجود خلل في ميزانية مصرف لبنان ولا سيما لناحية عدم اعتماد المعايير المحاسبية الدولية حيث تأجّل قيد الخسائر للفترات اللاحقة مما أخفى حقيقة الوضع المالي. وفي تحليل للموضوع، أكد خبراء محاسبة واقتصاديون أن هذا الموضوع لا إجماع حوله. فبعض المصارف المركزية تعتمد سياسة شبيهة بمصرف لبنان ومصارف مركزية أخرى تعتمد طرقاً مختلفة. وتالياً فإن السؤال: هل ما حصل جريمة يحاسب عليها القانون؟ وهل كل شركات التدقيق العالمية من “ديلويت” الى “إرنست أند يونغ” الى KPMG و”أوليفر وايمان” وصندوق النقد الدولي تغاضوا عن هذا الموضوع وعن هذا الخطأ المحاسبي لتكتشفه شركة “ألفاريز”؟
ليس خافياً أن مصرف لبنان خضع للتدقيق المحاسبي من أكبر أربع شركات عالمية، ولم يُثر موضوع محاسبة مصرف لبنان كما فعلت “ألفاريز”، فيما جرى الحديث عن أن هذه الشركات أو بعضها سيدعي على “ألفاريز” لتوجيه اتهامات وانتقادات خاطئة للشركات العالمية بما يؤثر على سمعتها خصوصاً أن بعضاً ممّا ذكره تقرير ألفاريز في موضوع المحاسبة غير دقيق أو غير علمي أحياناً.
وتشير مصادر مطلعة إلى أن ما يناهز 40 مصرفاً مركزياً، اعتمدت مبدأ تأجيل قيد الخسائر في ميزانيتها (Differed Cost) مثل البنك الفيديرالي الأميركي والبنك المركزي البريطاني والبنك المركزي الأوروبي والبنك المركزي الهولندي والبنك المركزي الأسترالي والبنك المركزي البرازيلي وغيرها. وفي دراسة حديثة (شباط 2023) لبنك التسويات الدولية (BIS) وهو مصرف المصارف المركزية ومقره مدينة بازل في سويسرا، أشار بوضوح إلى أن بعض المصارف المركزية لديها خسائر، ولا سيما خلال الأزمات مثل الأزمة المالية العالمية وذلك ليس بمشكلة، بل أمر طبيعي ما دامت المصارف المركزية تستطيع تحقيق أهدافها. فتأجيل الخسائر أو قيدها ليس بأمر مهم بالنسبة للمصارف المركزية، ولكن ينصح بنك التسويات الدولية بإعلام الجمهور والمواطنين بحقيقة الوضع وأن تكون سياسة المصارف المركزية شفافة.
مصادر حاكم مصرف لبنان بالإنابة الدكتور وسيم منصوري لم تنف محاولة مصرف لبنان سابقاً إخفاء حقيقة الديون والخسارة التي تكبّدتها الدولة في صندوق other Assets وهو أمر غير مطابق برأيها للمعايير الدولية، إذ يجب أن تكون هناك شفافية وتوضيح الأرقام للرأي العام. وأكدت أن هذا الأمر “لم يعد وراداً اليوم”، أما بالنسبة للفترة السابقة، فقد تم تشكيل لجنة في مصرف لبنان مهمتها تحسين العلاقة المالية بين مصرف لبنان والدولة، وتبديل آليات المحاسبة، وأرسل “المركزي” كتاباً في هذا الشأن الى وزارة المال للحصول على موافقتها والتنسيق معها.
السؤال: هل المعايير المحاسبية التي اعتمدها مصرف لبنان صحيحة وقانونية أم مخالفة للمعايير الدولية؟ منذ السبعينيات، برز اهتمام العديد من المنظمات الدولية لتوفير معايير محاسبية دولية، وتشكلت في سبيل ذلك اللجنة الدولية للمعايير المحاسبية الدولية في 29 حزيران 1973 IASC- International Accounting Standards Committee بنتيجة الاتفاقية المعقودة بين الجمعيات المحاسبية التابعة لكل من أستراليا، كندا، فرنسا، ألمانيا، اليابان، المكسيك، هولندا، بريطانيا، إيرلندا وأميركا. وكان الهدف صياغة ونشر المعايير المحاسبية المرتبطة بالمصلحة العامة والواجب مراعاتها عند عرض البيانات المالية. والسعي لتحسين واتساق الأنظمة والمعايير والإجراءات المتعلقة بعرض البيانات المالية، حتى بتنا نتحدث عن معايير معتمدة في المحاسبة الدولية ومعايير التقارير المالية والإفصاحات المالية الصادرة عن لجنة تفسير التقارير المالية IFRS -International Financial Reporting Standars. وIAS –International Accounting Standards.
ولكن هل ثمة معايير دولية بالمعنى الكامل للعبارة، ومن الواجب الالتزام بها؟ يؤكد خبراء محاسبة واقتصاديون أن ضرورة قيد الخسائر لإظهار الوضع المالي، لا إجماع عليها. فبعض المصارف المركزية تعتمد سياسة شبيهة بمصرف لبنان ومصارف مركزية أخرى تعتمد طرقاً مختلفة. وبرأي هؤلاء، إن المعايير المحاسبية الدولية التي تصدرها الهيئات الدولية والمعلن عنها لن تولد بطريقة علمية بحتة ومن الظروف والمتغيرات المحيطة بالأسواق الدولية، بل أتت نتيجة خيارات وبالتنسيق بين العديد من المعايير المحاسبية المطبقة في الدول “المتقدمة” والتي تسيطر على أعمال الهيئات الدولية.
أما الخبراء المتمسّكون بضرورة الامتثال للمعايير الدولية في المحاسبة والتقارير المالية، فيرون ضرورة أن تشمل عرض المركز المالي (الأصول والالتزامات والديون وحقوق الملكية والنقد ومعادلاته). على أن تستخدم نتيجة بيان المركز المالي وبيان الربح أو الخسارة والدخل الشامل لقياس أداء المؤسسة، ويكون بمثابة إقرار منها بعناصر التقارير والإفصاحات المالية. وتعتمد المبادئ المحاسبية عناصر الشفافية والعدالة والأمانة، أي وجود معلومات صحيحة وكاملة، إبراز المعلومات بشكل ملائم للمطلعين على التقارير، سهولة التفسير واتساق العرض، وقابلية هذه المعلومات للتحقق والمقارنة، وضرورة أن تصدر التقارير في الوقت المناسب.
وتهدف التقارير والإفصاحات المالية والإيضاحات الملحقة بالتقارير الى توفير معلومات مالية نافعة لمستخدميها، للجمهور وللمواطنين، لأن المعلومات المحاسبية عموماً، هي من أهم المعلومات التي يعتمدها الأشخاص، من مواطنين وصناع القرار، لبناء تنبؤاتهم عن التوجّه المستقبلي للمؤسسة وللوضع العام، والتي توجّه خياراتهم وقراراتهم. ووضع مجلس معايير المحاسبة المالية أهداف التقارير والإفصاحات المالية في مفاهيم المحاسبة المالية (منذ سنة 1978) التي يمكن الاستئناس بها في مجالات شتى، كتوفير معلومات نافعة وصادقة عن الموارد والحقوق عليها وتأثير الأحداث والظروف عليها، توفير معلومات عن الأداء المالي والدخل والسيولة والأموال والقروض وحركة رؤوس الأموال والعوامل الإضافية التي تؤثر على السيولة.
في الخلاصة، ثمة إجماع على أن المبادئ المحاسبية حتى تلك المقبولة والمتعارف عليها، وبالرغم من شموليتها، ليست قواعد ثابتة، بل هي في تغيّر وتطوّر مستمرّ استجابة للمتغيرات في البيئة الاقتصادية والمالية وحقوق الافراد، وتكييف هذه المبادئ مع المتغيرات أمر ضروري، على أنه مهما حصل من تغيير وتكييف تبقى مبادئ الشفافية والنزاهة قائمة وسائدة.
سلوى بعلبكي – النهار