رعى وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى حفل تكريم للساعر الكبير موسى زغيب في باحة دارة الدكتور ميلاد السبعلي في المياسة قصاء المتن، في حضور حشد كبير من الشعراء والمفكرين، كجرمانوس جرمانوس، حبيب يونس، الدكتور الياس زغيب، هشام الشدياق، ربيع موسى زغيب، بسام حرب، داني صفير، جورج لطيف، إيلي سركيس، جو حرب، وسميح خليل، فضلاً عن جمهور كبير من المثقفين ومتذوقي الشعر.
المرتضى
وقال الوزير المرتضى، صاحب الرعاية، في كلمته: “نحن الآن في نهايات الصيف ومطالع الخريف. لكننا أيضًا في موسمِ العودةِ إلى ينابيع الربيع مع أبي ربيعٍ الذي تدفّق الزجل على لسانه عذبًا صافيًا، كأنهار لبنان في أعالي الجبال، عندما يذوب الثلج وتضحك السماء. كان الزجل عنده تعبيرًا عن الالتصاق بالوطن وتراثه الأخضر مثل حقوله، الصامد مثل أرزه، فحُقَّ لموسى زغيب، الجامع بين التراث والأصالة على منابر الزجل اللبناني، أن يكونَ اليوم قمر الدار وعطر الليل وإسوارة العروس.
رسم أهل الزجل تاريخ لبنان بأفراحه وأتراحه. راحوا إلى ريفه وتقاليده وعاداته، فأحيوها على المنابر وسع الكون، ثقافةً شعبية فيها خلاصةُ القيم اللبنانية، من تعلّقٍ بالحرية وعشقٍ للأرض، ومن عاداتٍ وتقاليدَ اجتماعية راسخة الجذور في الحق والخير والجمال، ونثروها كلَّها في الأفق المعرفي أنجمًا وضاءةً، حتى ذاعت شهرة زجلنا في أقاصي المعمورة.
هكذا بين الزجل تراثًا، وموسى زغيب شاعرًا لا بد لوزارة الثقافة وللوزير شخصيًّا من تثمين مبادرة الدكتور ميلاد السبعلي إلى هذا التكريم، ليقيننا بأنه يعرف حتمًا قول المكرم:
الضيعة وفن الزجل يا ابْني وعَلَمْ لبنان بدك تحبُّنْ سوا تَ تكون لبناني
نعم، إن الزجل سجلُّ المبادىء الوطنية الأصيلة، الملتصقةِ بتراب هذا الوطن، والمتجذّرةِ في عادات أهله وأبنائه. نروح معه إلى رائحة الأرض، وفوح الياسمين، وبحّة الناي، وجرحةِ المزمار. يحملنا إلى معنى البطولة والإيمان والقيم الإنسانيّة. أما موسى زغيب فقد أعاد بزجله، وصوره الشعريّة، رسم خارطة البلد الأخضر الحلو، وأسهم مع رفاقه في تثبيت الهويّة الثقافيّة الوطنيّة، مجدّدا ومطوّرا أساليب الزجل، إيقاعًا وتعبيرًا وصورة.
لقد أمضى عمره في المساجلات الزجليّة والمباريات المنبرية، فكان شاعرًا مغوارًا، ومقارعًا مبدعًا. درج في قادوميات الزجل، كما في شوارعه العريضة، فلقي الطبيعة بترابها ومائها ونارها وهوائها؛ رسمها فأبدع؛ استحضرها في مطارحاته الارتجاليّة والكتابيّة، فكان رائدًا في الصورة المبتكرة، وأرَّخ لأحداثٍ عامة وخاصة شهدها على امتداد سنيه، وحاول نقل الزجل إلى الجيل الجديد عبر برامجَ وحلقات وندوات، قدّم فيها كمًّا حيًّا من الخزانة التراثيّة اللبنانيّة التي تحتوي على كنوز من الإبداع لا نفادَ لها..
ولعلَّ من أهم ما قام به روّاد الزجل في لبنان، وفي طليعتهم موسى زغيب، أنّهم نشروا فن المساجلة المنبرية على كل الأراضي اللبنانية، فعزّزوا حضور هذا الفن، كجزءٍ من الهَويّة الثقافية الشعبية، وساهموا في تبيان قيمة الحوار وحشد الأدلة للدفاع عن الرأي، كما ينبغي للفكر الحرّ أن يفعل. ومن هذا المنطلق، ولكونه خاصيّةً لبنانية، مكوّنةً لواحدٍ من أهم ملامح هويتنا الثقافية، تمَّ، كما تعرفون، إدراج الزجل اللبناني على قائمة التراث الإنسانيّ غير المادي لدى منظمة اليونسكو، بعد أن أعدّت وزارة الثقافة ملفًّا متكاملًا ميدانيّا وإحصائيّا على مساحة الوطن، وهذا عملٌ يحافظ على مادةٍ تعبيريّة مهمة من التراث والفن اللبنانيَين، صدحت ولا تزال في جبال لبنان وقراه لقرون عديدة.
وينبغي لي ههنا أن أشير إلى أن تراثنا غيرِ المادي، يشمل أيضًا مجموعة القيم الحضارية والإنسانية والاجتماعية التي نمت في أجيالنا على مرَّ العصور وتكوَّنَت طرائقَ عيشٍ مبنيٍّ على الفضيلة. هذا يجب علينا أن نحافظ عليه، كما نحافظ على أي معلم تاريخي من معالمنا الأثرية، بل لعلنا ملزمون بحمايته مثل القلاع والمعابد والأوابد، إن لم يكن أكثرَ منها، فهذه صمدت على الدهر، فيما قيمُنا اليوم معرضة للخطر الهاجم علينا مدججًا بالمشاريع المشبوهة الغريبة عن طبائعنا. كذلك ينبغي لنا أن نحافظ أيضًا على فضيلة الحوار، كوسيلةٍ لحلِّ جميع الأزمات،
وما احوجنا اليوم أيّها الاحبّة الى الحوار…الى أن نركن الى الحوار…الى أن نلبّي الدعوة للحوار والى أن نتأسّى بشعراء الزجل على المنابر كيف يتحاورون ويسوقون الحجج من كل صوبٍ لدعم مواقفهم، وذلك عبر أسلوبٍ راقٍ، مليءٍ بالمحبة ولو اعترته بعض العنتريات، لا كما يحدثُ في حياتِنا السياسية، وعبر بعض القنوات المأجورة التي تضخّ الفتنة حيث تتصارع الحناجرُ صراعًا أضرى وأبشع أثراً من المدافع والقنابل.
موسى زغيب، أنت من التراث الغني والإرث الثقافيّ الذي سيبقى حيًّا في لبنانَ والعالمِ العربيّ والـمغترباتِ التي نقل إليها الزجلُ عاطفة الحنين إلى الوطن ولهفة الرجوع إليه، فشكرًا لكلّ بيت قُلْتَه أو كتبته أو ارتجلته.
موسى زغيب، ستبقى كلمتك واسطة خيرٍ وحوار، وينبوعًا يغذّي مجتمعنا بالقيم. ابقَ على طيبة كلمتك وعطاء فكرك، هنيئًا لك التكريم، أطال الله بعمرك والسلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.
السبعلي
واستذكر الدكتور السبعلي تجاربه مع المُكرم. وقال: “كنا بعد شبابا يافعين، قبل زمن الانترنت والثقافات المستوردة، ونتفتح على تجارب الحياة واختباراتِها، وعلى معاني الحب والغزل، ومخبأنا في الليالي هي الدروب المقفرة التي تصل المتن بكسروان، الى أن فضحنا موسى زغيب بقوله:
عدروب ليل المتن رح آخدك مشوار عا شرط خبّي الحكي لبعيونك وروقي
وفي تلك الشروقية الشهيرة، ونحن نلهو في الطبيعة، ونجاري رفقاء الضيعة في الصيد، وصلي الدبق لتعلق عليها العصافير النادرة في مواسم المرق، تعلمنا منه كيف نناضل لكسب قلب الحبيبة، عندما يتابع:
عبواب بيتي أنا وعا واجهات الدار
وعطواق غرفة منامي وشرشف حقوقي
صالي دبوق الهوا وعم كشّب الأطيار
حتى ما يعلق حدا غيرك على دبوقي”.
وتابع السبعلي متحدثا عن فترة تحصيله الدكتوراه في اليابان، “و”الغوص في الجوانب التربوية والنفسية” بعد عودته إلى لبنان، مسجلا أن “ثمة علاقة جدلية معقدة بين الإبداع والنظام. فالإبداع في حاجة الى بعض من الفوضى والعبثية ليتفجر، بينما هو في حاجة الى النظام بعد ذلك ليصبح مؤطرا مستداما، فيما الكثير من النظام قد يقتل الابداع. وعلى المرء الذي يتقن الإبداع المستدام، أن يجيد فن المواءمة والتوازن بين التحليق من جهة، وخبرة التنظيم من جهة أخرى. وهذا نظام حياة إذا أجدنا بناءه، نتقدم في حياتنا الشخصية والاجتماعية والمؤسساتية الى مدارات أوسع وأغنى وأروع”…
واستدرك السبعلي: “موسى زغيب، بمسيرته وإبداعاته ونضاله لتجديد فن الشعر والزجل، وفي الوقت نفسه، المحافظة على رصانته واستدامته وموقعه وسط كل التطورات والمتغيرات في حياتنا الاجتماعية، كان الأقدر والأكثر تميزا وسحرا في إيجاد التوازن الصحي المحيي بين الإبداع والتنظيم، بين الخيال والحبكة، بين التفلت من قيود العادات والتقاليد البالية، وعدم الانجراف في موجات الموضة المستوردة، بين عمق الكلمة وجمالية التعبير وبساطته، وبين الأصالة والحداثة”.
وتابع: “وبهذا المعنى، يمكن القول إنه شكل مدرسة نموذجية عالمية، لسبل التأقلم مع تطورات العصر والحياة، والمحافظة على الهوية الحضارية والثقافية، واللون الشعبيِ، والقرب من الناس ووجدانهم وأصالتهم”.
وأضاف: “عندما زرته مع الصديق الحبيب جرمانوس جرمانوس منذ فترة، اتخذت بيني وبين نفسي قرارين مهمين: الأول، تكريمه وهو بعد بصحة جيدة، أطال الله بعمره، وها نحن اليوم ننفذ هذا القرار، مع كوكبة من الشعراء المميزين، الذين يضفون رهبة على كل من يتكلم معهم على المنبر، وبرعاية كريمة وحضور بهي لمعالي وزير الثقافة.
والقرار الثاني، يتعلق بفن الزجل والشعر، وتحديدا تراث موسى زغيب وعدد من الشعراء العظماء، وما قدمه مسار موسى زغيب تحديدا، من إبداع مستدام، على مدى سبعة عقود، خاطب خلالها أجيالا كثيرة مختلفة ومتغيرة، واستطاع ملامسة أرواحهم وتعزيز روح انتمائهم الوطني ووحدتهم الاجتماعية، وصقل مواهبهم وترقية ذوقهم الفني، وتقديم نموذج فريد متوازن من الإبداع والتنظيم، من الحداثة والأصالة، من جمالية التعبير وسهولته وعمق الفكر وشموليته، من تجديد مفاهيم الحب والغزل من دون الابتذال والسطحية… فأنعش الروح ولم يسمح للحرف أن يقتل!”.
وأكد: “هذا التراث، يجب أن ندخله بطريقة أو بأخرى، في برامجنا التعليمية، على الأقل في المدارس التي نديرها نحن في المرحلة الأولى، ونناضل لإدخاله في المناهج الوطنية في لبنان والمشرق العربي، لما له من أهمية وقدرة على تنمية كفايات ومهارات يحتاج إليها متخرجونا في المرحلة المقبلة، في هذه العصر، مهما كانت اختصاصاتهم، لتساعدهم في التعامل مع تطوراتِ العصر والحياة، وتوسيع آفاقهم ومداراتهم وابداعاتهم، وتمكينهم من ناصية التعبير والكلمة والفكر والثقافة والتراث”…
وحتم: “أبو ربيع الحبيب… الكلمات، مهما تعملقت وتنمقت، لا تستطيع إيفاءك بعضا مما أعطيته لنا، ولمجتمعنا، ولحياتنا، ولا بعضا من إضافاتك الغنية الى تراثنا الوطني والقومي والاجتماعي. أنت هنا اليوم لتكرمنا بحضورك، لا لنكرمك. ونحن ضيوف في قصائدك وشعرك، التي بنيت لنا بها صروحا أعرق من قلاعنا التاريخية، وأنت صاحب كل المنازل. فأهلا وسهلا بك، وبكل الأحبة الذين جاؤوا ليعبروا لك عن حبهم وتقديرهم لعطائك اللامتناهي، وتراثك الخالد، والذي اصبح جزءا من تجارب حياتهم وتفاعلهم مع الوطن والحب والأرض والجمال”…
قصائد في المناسبة
وبعد كلمة الدكتور السبعلي، كانت قصائد للشعراء جرمانوس والشدياق ويونس وايلي وربيع زغيب أطربت الجمهور.