من المعروف أنّ هناك خطأين شائعين في الأوساط الاعلامية والشعبية في لبنان وهما: أولاً، انّ فرنسا انتهى دورها وهي بصدد تسليمه لقطر، وثانياً انّ قطر باشرت بمبادرتها التي سنشهد خواتيمها قريباً.
وهذه الافتراضات ارتكزت على حال التضعضع الذي واكب الجولة الثالثة للموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان بسبب صراع الاجنحة حول الملف اللبناني بينه وبين رئيس الخلية الدبلوماسية الفرنسيّةِ في الايليزيه ايمانويل بون من خلال باتريك دوريل، والذي أنتجَ تضارباً في المواقف وبالتالي انعدام الوزن الفرنسي، اضافة الى المشهد الذي واكبَ انعقاد اجتماع اللجنة الخماسية على هامش اعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة، والذي شهد تضارباً في الموقف مع باريس خصوصا من قبل الأميركيين.
لكن ما حصل يبرز جزءاً من الصورة وليس كامل المشهد.
في الواقع إنّ الانتقاد الأميركي للفرنسيين ارتكز بشكل اساسي على السلوك التفاوضي للفرنسيين في لبنان ما يجعل المسألة وفق سقف زمني مفتوح، وهو ما سيضع لبنان أمام مخاطر أكبر قد تؤدي الى انزلاق الاوضاع باتجاه فوضى عارمة وغير قابلة للسيطرة، ومنها على سبيل المثال الفراغ على مستوى قيادة الجيش اللبناني مطلع السنة المقبلة.
وانطلاقاً من هذه النقطة، من المفترض أن تعاود باريس حركتها في لبنان ولكن وفق الصيغة التي يحملها لودريان وليس دوريل أو بون، وايضاً مع مساعدة قطر التي تولّت دور ترتيب التفاهم بين واشنطن وباريس. أي تنسيق قطري – فرنسي ولكن تحت سقف البيان الصادر عن الخماسية بعد اجتماع الدوحة في 17 حزيران الماضي. ووفق مصادر ديبلوماسية معنية في وزارة الخارجية الاميركية فإنّ واشنطن حريصة جدا على استمرار اللجنة الخماسية وفي الوقت نفسه ابقاء التواصل قائماً مع كل الاطراف في لبنان بمن فيهم «حزب الله» ولو عبر الرئيس نبيه بري.
ولكن هذا الكلام الاميركي يخفي في طيّاته عدة معان، أبرزها: أن لبنان غير متروك ويجب متابعة تطوراته لحظة بلحظة وابقاء وضعه تحت السيطرة ولكن التوقيت الحقيقي لاننتاج التسوية لم يحن بعد ولو أنه مرشح لأن لا يطول كثيراً. وهذا ما يفسر الى حد بعيد اللامبالاة الدولية التي واكبت حضور الوفد الرسمي اللبناني في نيويورك. فالمواعيد التي أعطيت كانت قليلة ومتواضعة نسبياً. واستطراداً، فإنّ الحراك الفرنسي – القطري المتوقع ما يزال في اطار تحضير المسرح اللبناني وليس انجاز التسوية المنتظرة.
وقد يكون لذلك تفسير اضافي يتعلق بالوضغ الاقليمي والدور السعودي الفاعل في لبنان، فالرياض ما تزال تكتفي بإرسال الاشارات المعبرة بأن لبنان يعنيها مباشرة، ولكنها في الوقت نفسه ما تزال تحجم عن الحركة.
وخلال المرحلة التي تلت اتفاق بكين والتي شهدت مصالحة سعودية-ايرانية، نقل عن ديبلوماسيين سعوديين بأن الملف اليمني يشكل اختبارا إلزاميا للنوايا الايرانية، وان الانتهاء منه سيشكل البداية المطلوبة للملفين السوري واللبناني.
«والاختبار» السعودي موجّه لواشنطن كما لطهران، فالمساعدة الاميركية الفاعلة مع ايران مطلوبة سعودياً قبل التحرك باتجاه دمشق وبيروت حيث تريد واشنطن نفوذ السعودية وقدراتها الاقتصادية لترتيب الحلول المطلوبة على قاعدة اعادة «دوزنة» حجم النفوذ الايراني. والواضح أنّ الرياض أعطت اشارة جديدة باهتمامها بالملف اللبناني من خلال الاحتفال المميز هذه السنة بعيدها الوطني والذي حمل رسائل بالجملة، ولكنها في الوقت نفسه أوحَت بأنّ وقت الحلول لم يحن بعد.
وخلال المرحلة الماضية عاد مستشار الرئيس الأميركي آموس هوكستين من زيارته للبنان متفائلاً. وهذا ما أبلغه للادارة الأميركية، ولو أنّ تسريب التفاهم حول ازالة الخيمة أدى الى نسف الاتفاق.
لكن السعودية المعنية بالملف اللبناني وفق اشاراتها، والتي تنتظر الظروف الاقليمية، تدرك في الوقت نفسه بأن الوقت عامل اساسي وضاغط، وهنا لا بد من استذكار تصريح وزير الخارجية الايراني لدى زيارته لبنان عن الكلام الايجابي الذي سمعه من المسؤولين السعوديين بمساعدة لبنان. وهي اشارة اضافية حول الاهتمام السعودي بالملف اللبناني.
فعلى المستوى الاقليمي ثمّة ملفات كبيرة تحتل الأولوية لدى السعودية. طبعاً الملف اليمني هو أولوية ولكن هنالك أيضا ملف التطبيع مع اسرائيل، والذي في حال حصوله سيؤدي الى تحوّل كبير في الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه سيطرح علامة استفهام حول ردة الفعل الفلسطينية وسَعي ايران لاقتناص الفرصة وتوسيع نفوذها.
صحيح أن التطبيع الناعم كان قد بدأ منذ فترة مع فتح الاجواء السعودية أمام الطائرات الاسرائيلية والسماح للوفد الاسرائيلي بالدخول الى الاراضي السعودية، لكن للتطبيع الرسمي نتائج وانعكاسات أكبر بكثير. وجاءت حادثة اطلاق النار على السفارة الاميركية في عوكر لتطرح تساؤلات عدة حول خلفياتها الحقيقية وسط التباسات عديدة أحاطت بها وما تزال كلها من أجوبة حاسمة. فأصابع الاتهام طالت فوراً «حزب الله»، فيما اصدقاء الحزب نَفوا علاقته بما حصل، خصوصاً أن أحد الاهداف تمثّل بتوجيه أصابع الاتهام باتجاه «حزب الله» الذي لا مصلحة له بما حصل والخرق الامني لم يشكل فعلياً ثغرة أمنية خطيرة وفق طبيعة التنفيذ ومع وجود تداخل سكاني متنوّع الولاءات السياسية في تلك المنطقة. أضِف الى أن المنفذ ترك خلفه شنطة قد تحتوي على أدلة تطاله. لكن السؤال هو ما إذا كان المنفذون الذين استكشفوا المنطقة مسبقاً بشكل جيد قد تقصّدوا اطلاق النار بعد عودة السفيرة بدقائق قليلة من مشاركتها في مأدبة عشاء أقامها نائب كسرواني على شرفها في منزله الجبلي. واستطراداً، ما اذا كانت هنالك مراقبة لوجودها في المنزل وانطلاق موكبها من هناك. وبالتالي، تصبح الرسالة في هذه الحالة أكثر خطورة وبلاغة بأننا قادرون ليس فقط على اصابة السفارة بل ايضا الموكب ولم نفعل ذلك لأننا نريد التنبيه ولفت النظر بإشارة جدية لا المواجهة، كما قد يكون التوقيت مَحض صدفة.
وبالعودة الى الموفد الامني القطري والذي يقوم بتحركاته بعيداً عن الاعلام كما يفعل عادة، فإنه لا بد من انتظار ملاقاة لودريان له. ولا بد أن القطري الذي ينسق جيدا وبالكامل مع السعودية يدرك بأنّ زمن التسويات لم يحن بعد. وأن ما يقوم به استطلاع استباقي، وأن مؤشر دُنو الحل سيكون مع قدوم المسؤول السياسي.
وقد يكون ما هو أكثر لناحية النظرة السعودية المتمسّكة باتفاق الطائف من دون تعديلات اتفاق الدوحة الشفهية. أي من دون «عرف» الثلث المعطّل لدى تشكيل الحكومات اضافة الى مسائل اخرى.
وهذا ما يعطي الحراكين الفرنسي والقطري طبيعة استكشافية أكثر منها تسووية حقيقية.
أضف الى ذلك تمسّك واشنطن بسياستها المعروفة في سوريا ومعارضتها لأي خطوات تُريح النظام من دون أن يسبق ذلك تعديلات دستورية تطال صيغة حكم جديدة بدأت بوادرها تظهر على أرض الواقع في السويداء.
لكن ورقة القوة التي تحملها قطر، والتي تعوّل عليها الرياض كما واشنطن، أثبتت قدرتها على تولّي مهام معقدة على المستوى الاقليمي والتي نجحت في تنفيذها كما في أفغانستان وايران وأزمة الغاز اثر حرب أوكرانيا.
ثمة عبارة ساخرة تنتشر في الخليج وفق وكالة بلومبرغ الاميركية ومفادها أن الدوحة للديمقراطيين والرياض للجمهوريين. والمقصود بالمقارنة هنا الاشارة الى ولايتَي دونالد ترامب وجو بايدن، عسى ألا يكون ذلك صحيحاً.
جوني منيّر – الجمهورية